Sunday  03/04/2011/2011 Issue 14066

الأحد 29 ربيع الثاني 1432  العدد  14066

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

- الشارع العربي اليوم؛ يعج بالغاضبين، ويموج بالصائحين، ويصنع له مكانة جديدة في الثقافة العربية. ما قصة هذا الشارع في حياة أصحابه؟

- يبدو أن اللسان العربي؛ لم يعرف (الشارع) بمعناه المستخدم في زمننا هذا؛ إلا بعد أن عرف العرب حياة الحواضر الكبيرة والمدن المنظمة.

- عرفوا بداية (الدرب) وقالوا: هو المضيق في الجبل، والمدخل الضيق، وكل طريق يؤدي إلى خارج البلد. ثم عرفوا (الطريق) فقالوا: هو الممر الواسع الممتد.

- يأتي مصطلح الشارع ثالثاً على اللسان العربي، قالوا: هو الطريق الأعظم في المدينة. أصبح الشارع فيما بعد، جزءاً من الشكل التخطيطي والتنظيمي للمدن العربية، ثم تحول بعد ذلك إلى مركز تجاري واقتصادي، إضافة إلى وظيفته في المواصلات البرية وسير السيارات.

- في غضون عقود قليلة مضت، ثم في أيامنا هذه، أصبح للشارع في حياة الناس أكثر من وظيفة. لم تتوقف مهمته عند التجارة والاقتصاد والمواصلات. صارت له وظائف سياسية وثقافية وحتى عسكرية إذا لزم الأمر.

- يا سبحان الله..! أصبح للشارع في الثقافة العربية؛ شأن وقوة، بل سطوة وهيبة. كان فيما سبق؛ من المواضع الدونية في عرف الناس، حتى أنه كان يقال للفوضوي والبلطجي وعديم التربية: (ولد شوارع).

- أذكر أن واحداً من مديرينا الأوائل في معهد المعلمين الثانوي بالطائف- رحمه الله – وقف أمامنا في طابور الصباح في أول يوم دراسة في العام الدراسي الجديد، وكان قد جاء بعد مدير سابق وحادثة شهيرة لطلاب المعهد قبل دفعتنا، وقف وهو يلوح بعصا في يده، ثم أنزل عن رأسه عقاله وغترته وقال مهدداً ومتوعداً: أنا فلان بن فلان الفلاني، ومن اليوم فصاعداً، من كان منكم في رأسه حبة شعيرة، فليقابلني في الشارع لكي أطحنها له، وأشار بيده إلى الشارع المجاور لمبنى المعهد..!

- لقد فهمنا الرسالة التي أتت بعد تمرد الدفعة التي سبقتنا، وكان فهمنا لمدلول الشارع المستخدم في رسالة التوبيخ والتهديد تلك، مبنياً على خلفية المدلول الذي يعنيه الشارع في ثقافتنا الشعبية، خاصة المدرسية منها، فقد كان التلاميذ والطلاب فيما مضى- ولعل هذا ما زال باقياً- يتهددون بعضهم بالشارع إذا اختصموا أو اختلفوا داخل جدران المدرسة، لأنهم لا يريدون أن ينتقل خصامهم ونزاعهم إلى إدارة المدرسة، فلهذا يتوعد بعضهم بعضاً في الشارع قائلاً: (إذا كنت رجّال.. قابلني في الشارع أوريك)..!

- كانت الشوارع المحيطة بالمدارس، تشهد معارك بين طالب وآخر، وقد تتحول إلى أن تصبح ساحات قتال وعنف بين طلاب وطلاب، إلى أن يأتي معلم مار أو فاعل خير، فيفك بين المتقاتلين، ويفرق بين المتخاصمين.

- كان الشارع في زمن ليس بالبعيد، ساحة محايدة يتلاقى فيه الخصوم من تلاميذ المدارس وطلابها، لكي يُصفُّوا فيه حساباتهم، وكم من مرة كنا نشهد خروج بعضهم بالعصي والمطاوي ونحوها، حتى إذا احتدم الأمر بين الخصم وخصمه، جاء من يفرج الهم، ويفرق الجمع، فيصطلح القوم الصغار، وتعود المياه إلى مجاريها، لتعاود التصلب والجدل من نهار اليوم التالي.

- تحول الشارع الذي عرفه العرب في قواميسهم بأنه: (أكبر طريق في البلدة)، ويطلق عليه أهل تونس: (نهج).. تحول من صورة إلى صورة، من مكان يشتجر فيه الصغار، إلى مكان يشتجر فيه الكبار، ومن ميدان لمعارك صغيرة، إلى ميدان لمعارك كبيرة. ترقت رسالته القديمة، من معترك للفصل بين المتخاصمين الصغار، إلى معترك للفصل بين الخصوم الكبار.

- شهدنا كيف أصبح الشارع موعداً، يلتقي فيه الخصوم اليوم، من ساسة القوم وأدبائهم وشعرائهم وفنانيهم وعسكرهم ورجالات الدين والدولة فيهم، يلتقون للتظاهر والاحتجاج والتصادم أيضاً. كم مرة أصبح الشارع العربي في عواصم العرب ومدنهم، منطلقاً لشغب المشاغبين، وساحة لتصفية الحسابات مع هذا أو ذاك، وذريعة للسطو والتخريب والبلطجة، ونهاية لعهد حكم قديم، وبداية لعهد حكم جديد، مثلما وقع في تونس ومصر وليبيا واليمن مؤخراً.

- على مر العصور؛ حمل لفظ الشارع، ما هو أكثر من دلالته اللغوية، فهو تخطى الدلالة المكانية إلى دلالات إنسانية ومعنوية متشعبة. وفي الوقت الذي نرى الدماء تسيل في الشوارع، والأذى يطال كبار الناس وصغارهم بدون تمييز، نعود إلى آداب الطريق والشارع في حياة العرب. جاء في الحديث النبوي: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة). وأوصى العقلاء بما يلي: (يجب على المار في الطريق أن يمضي في طريقه فلا يحدث ضجة ولا صياحاً، ولا يعمل عملاً يوجب اجتماع الناس عليه لئلا يزدحم الشارع، وإذا كان بصحبة المار واحد أو أكثر، فلا يمازحهم، ولا يشاجرهم، ولا يضار بهم، لأن هذا من سوء الأدب. وعليه إن صادف في طريقه عاجزاً أو شيخاً مسناً أن يفسح لهما في الطريق، ولا يؤذيهما أو يهزأ بهما.

وعليه أن يمشي معتدل القامة مشياً متوسطاً، لا سرعة زائدة فيه تضر المارة وتصدمه بهم، ولا بطء يلفت النظر إليه ويجعله موضع ضحك وهزؤ. وإنه من قلة الأدب؛ أن يأكل الشخص في السوق، أو أن يتنحى جانباً منه فيتبول، أو أن يفعل أي فعل يوجب سخط الناس أو يضر بهم.

- ماذا بقي من هذه الآداب الإنسانية الحميدة في الشارع العربي يا ترى..؟

- أما إذا لم نجد غير الشارع مفرزة لسراة القوم فينا والقادة، فلنقل على دنيانا السلام. لقد صدق الشاعر (الأفوه الأودي) يوم قال مفتتحاً قصيدته الحكمية الشهيرة:

أمارة الغيّ أن تلقى الجميع لدى

الإبرام للأمر، والأذناب أقتاد

ثم يقول منها:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهمُ

و لا سراة إذا جُهّالهم سادوا

تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت

وإن توالت فبالا شرار تنقاد

إذا تولى سراة الناس أمرهـم

نما على ذاك أمر القوم فازدادوا

فينا معاشر لم يبنوا لقومهم

وإن بنى قومهم ما فسَّدوا عادوا

لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم

والجهل منهم معاً والغيّ ميعاد

assahm@maktoob.com
 

اطلع لي في (الشارع)..؟!
حمّاد بن حامد السالمي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة