تتابعت سلسلة من الأحداث العظيمة المتسارعة في المنطقة بصورة تسبق القدرة على هضمها واستيعابها، وذلك منذ لحظة إشعال التونسي محمد البوعزيزي النار بنفسه -رحمه الله- للتعبير عن الاحتجاج من موقف تعرض له. ومن أهم مواضيع الجدل التي تواكبت مع تلك الأحداث التساؤل القديم الجديد حول مدى أهمية دور الاقتصاد في تفسير الأحداث الجسيمة التي غيرت مجرى التاريخ. لا يختلف اثنان حول أهمية الاقتصاد في هذا المجال ولكن السؤال هو ما إذا كان الاقتصاد يُمثل الباحث الوحيد أم أنه السبب الرئيسي. لو أنني خُيرت بين هذين الجوابين دون الحرية في اقتراح جواب آخر لاخترت الجواب الأول. الذين يُشككون في هذا الجواب سعوا إلى تفسير حادثة مُحمد البوعزيزي على أساس أن الإهانة التي تعرض لها من الشرطة هي التي دفعته إلى إحراق نفسه وهي التي ألهمت الجماهير وصنعت الموجة العظيمة من التسونامي التي لا تزال دوائرها تتسع في المنطقة. أما مؤيدو الرأي الآخر، ومنهم كاتب هذه السطور فيرون أن تلك الحادثة لم تنتج عن التصرف الأرعن الذي تعرض له- رحمه الله- ولكنها كانت القشة الأخيرة التي كسرت ظهر صبره بعد معاناة طويلة من البطالة والعوز. فلو أنه تعرض لتلك الإهانة مثلاً بسبب إيقافه سيارته الكاديلاك في مكان خاطئ لما أقدم على الانتحار بتلك الطريقة المؤلمة، ولو أن الجمهور الذين شهدوا الحادثة كانوا من الطبقة الوسطى أو الغنية لكان رد فعلهم أقل تشنجاً. الثورة الفرنسية انطلقت من إشاعة انتشرت بين المُعدمين تُفيد أن البرلمان الذي يغلب عليه النخبة فرض ضرائب إضافية لتعديل العجز المالي الحكومي الناتج عن نهم لويس الرابع عشر الذي لا يشبع. والثورة الأمريكية اشتعلت عندما أصدر البرلمان البريطاني قانوناً مد بموجبه ضريبة الشاي لتشمل المستعمرات الجديدة ومن بينها أمريكا. ويستطيع المؤرخ المتخصص في تحليل الأحداث إرجاع كل المعارك الفاصلة في التاريخ إلى أسباب اقتصادية (ما عدا عدد قليل جداً من معارك المد الديني). وفي سنغافورا الحديثة كان هامش الحرية متدنياً ولكن كانت العدالة شبه مُطلقة وسيادة القانون شبه كاملة والاقتصاد ينمو بسرعة قلما وُجد لها مثيل في التاريخ. صحيح أن الفقر لا يُحرك الجماهير لوحده، ولكن عندما يمتزج مع غياب العدالة في توزيع الفرص وضعف سيادة القانون فإن الخلطة تكون عبارة عن برميل بارود جاهز للانفجار. ليس الهدف من هذا المقال الترف الفلسفي ولكن التحذير من غمط دور الاقتصاد في تحريك الأحداث.