Monday  31/01/2011/2011 Issue 14004

الأثنين 27 صفر 1432  العدد  14004

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

في الأسبوع الماضي كان عنوان مقالتي: «وأراد الحياة شعب أبي القاسم»؛ مستلهماً بيتي الشاعر التونسي المبدع أبي القاسم الشابي، وهما:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

فلا بُدَّ أن يستجيب القدر

ولا بُدَّ لليل أن ينجلي

ولا بُدَّ للقيد أن ينكسر

ومما قلته في تلك المقالة: لقد هَبَّ الشعب التونسي بثورة شعبية جماعية لم تخطط لها زعامة معينة، ولا ادَّعتها -بعد أن هبَّت - جهة حزبية أو نقابية معترف بها رسمياً أو غير معترف بها. هبَّ الشعب التونسي العظيم؛ إرادة، بثورة شعبية حتى إن رمزاً من رموز عهد الظلم والفساد لمَّا تطله بعد يد الإزاحة من السلطة - في محاولة تبدو يائسة منه للتشبث بتلك السلطة - قد اضطر إلى الاعتراف بأنها «ثورة الشرف والكرامة».

أجل. لقد هب الشعب التونسي العظيم بثورته الشعبية المعبرة عن مشاعر جميع فئاته -باستثناء زمرة المنتفعين من عهد الظلم والفساد-؛ مبرهناً على أن أمتنا التي ينتمي إليها ما زالت تتدفق في عروقها دماء الحياة؛ إرادة وتصميماً. فلم يكن أمام رأس السلطة الظالمة الفاسدة إلا أن يهرب مذموماً مدحوراً. ولم يكن يخطر ببال الكثيرين أن جبروت نظامه البوليسي المتفرعن لن يستطيع حمايته.

لقد عرف جيلنا من العرب حركات لانتزاع الحكم من الحكام. وسميت هذه الحركات -وكلها عسكرية الطابع- ثورات. وفي حقيقة الأمر أنها كانت انقلابات عسكرية أكثرها تم بالسيطرة على مقر رئاسة أركان الجيش ومقر جهاز الإعلام المرئي والمسموع. ومن تلك الانقلابات ما لم تُرَق فيه دماء، لكن منها ما كان دموياً وحشيا. وكان كل قائد انقلاب يعلن أنه المنقذ من الظلم والفساد، المصمم على تحقيق ما فيه الصالح العام لشعبه وأمته. والمؤلم أن الجماهير كانت تنخدع، وتظهر ما يدل على أنها تصدق ما يعلن، وأن أكثرية نخبها المسماة بالمثقفين لم يجيدوا إلا التفنن في أساليب النفاق وكأن ضمائرهم جبلت عليه دون سواه.

وكنت قد كتبت قصيدة -قبل ثلاثين عاماً-؛ محاولاً التعبير عن ذلك. وعنوان تلك القصيدة: «بقينا كما كنا»، ومستهلها:

بقينا على مر الليالي كما كنا

فلم نستفد منها ولا غيرت منا

ومنها:

نكيل لمن غنى المدائح شاقنا

ترنمه أم ساءنا وقع ما غنى

ونظهر تعظيما لكل مغامر

جديد وإن كنا نسيء به الظنا

نردد ما تهوى أساطين حزبه

كأنا بما صاغوا من القول آمنا

فإن مدحوا قزما مدحنا وإن دعوا

على بطل من خيرة القوم أمنا

ونزعم خوانا من الناس من سعى

على غير ما شاء الزعيم وما سنَّا

وإن كان لم يسرق من الشعب حقه

عفافا ولا خان البلاد كما خُنَّا

قبلنا من المبتز حلو ادعائه

وفزنا من الأقوال بالروضة الغنَّا

أتى بالمنى الخضراء حين مجيئه

وعودا ولم يصدق بما كان قد منى

وكم مُدع تحرير شعب وفعله

يبرهن أن الشعب أمسى له قِنا

بقينا صراعا بين آلام حاضر

وماض على أطيافه نقرع السنا

تمر بنا الأيام دون توقف

وتمضي لياليها ونحن كما كنا

ما حدث في تونس لم يكن انقلاباً عسكرياً هدفه -في أغلب الأحيان- مجرد تولي السلطة في البلد؛ بل كان ثورة شعبية هدفها الواضح القضاء على عهد أبرز سماته البشعة الظلم والفساد.. ولعل هذه الثورة فريدة النوع والانطلاقة في عصر جيلنا الحاضر. لقد قامت ثورة شعبية على دكتاتور رومانيا السابق، لكن تلك الثورة كانت مدعومة عند انطلاقتها بعالم غربي يسعى بإتقان إلى انتصار نظامه الرأسمالي. وقامت ثورة شعبية في إيران ضد طاغية ظن أنه حصن حكمه بجهاز السافاك سيئ الذكر، وأراد طمس هوية شعبه الإسلامية ليحل محلها قوية فارسية محضة. لكن تلك الثورة قامت على أساس ديني مبني على مرجعية لا يعصي أتباعها لها أمراً. ولعل من أوضح الأمثلة على هذا الانصياع المرجعي أن آلافا من أولئك الأتباع- خلال الحرب بين إيران والعراق- عبروا أحد الأنهار إلى ساحة المعركة مرتدين أكفانهم استعداداً للموت في سبيل ما أمروا به.

ومن تلك الأمثلة الواضحة أن مقتدى الصدر تزعم أنصاره - عند احتلال أميركا للعراق- لمواجهة قوات الاحتلال بالقوة، لكن السستاني؛ وهو الذي يعد المرجعية الأعلى في تلك البلاد، أمره بالتخلي فوراً عن ذلك، ففعل. وليس مهما أن يكون قد دُفع للسستاني ما ذكره مجرم الحرب الأميركي، رامسفيلد؛ وهو مبلغ مئتي مليون دولار مقابل إصداره ذلك الأمر. فكم اتضحت البراهين على بيع الأوطان؛ سراً وعلناً، على أيدي شخصيات سياسية ودينية؛ شيعية وسنية.

هبَّة الشعب التونسي بثورته الشعبية من إيحاءاتها أن الشعب «باقٍ وأعمار الطغاة قصار». هبة لم تدعمها لتهب جهة أجنبية لمصلحتها الخاصة، ولم تعتمد على أيديولوجية مرجعية دينية لا يُعصى أمرها. هبة ضد عهد أبرز سماته السيئة -كما ذكر سابقاً- الفساد والظلم. صحيح أن الفساد المالي والإداري موجود في كثير من دول العالم. لكن درجات هذا الفساد تتفاوت؛ تماماً كما تتفاوت مواقف الشعوب منه من حيث النظرة إليه والمحاسبة عليه. من الشعوب ما أصبح ديدنها في التعامل للحصول على المغانم أو الحقوق الالتزام بمدلول المثل القائل: «امرخ السير يسير». ومن الشعوب ما أصبحت المحاسبة على الفساد فيها لا داعي لها، إن لم تكن ممنوعة.

الفساد، الذي مارسه رأس عهد الظلم والفساد في تونس، والمتمثل بالإثراء من المال العام، انكشف وجهه الكريه بعد أن «حَتَّ الوبر عن الدَّبَر». لكن الفساد لم يكن وحده ما ميز ذلك العهد. فمن المرجح جداً أن كثيراً من دول أمتنا؛ عربية وغير عربية، لا يقل مستوى الفساد المالي فيها عن مستوى العهد المطاح به في تونس. لكن ذلك العهد أضاف إلى الفساد ممارسته كبتاً بوليسياً فظيعاً امتد إلى مضايقة الناس في أدائهم شعائرهم الدينية، وإلى تبني أنظمة تحرم شيئا أحله الله وتحل شيئاً حرمه، وذلك في بلد اختار أهله أن يكونوا مسلمين راضين بالإسلام دينا، وكان من عظمائه الثالبي وابن عاشور.

أما بعد:

فهل حقق الشعب التونسي، بثورته الشعبية، إرادته التي عبر عن حتمية استجابة القدر لها الشاعر المبدع أبي القاسم الشابي؟ لقد هرب رأس عهد الظلم والفساد مذموماً مدحوراً، وهرب من هرب من أعوانه وأقاربه؛ بعضهم بما غلي من أمواله غير المودعة في البنوك الأجنبية المجمدة بعد ذلك الهروب. واضطر المتلونون من رموز ذلك العهد إلى إعلان تخليهم عن الحزب الذي كانوا من زعمائه. وما عهد للمتلونين تمسك بمبدأ أو التزام بموقف. لقد حقق الشعب التونسي، بثورته الشعبية، الكثير مما هدفت إلى تحقيقه إرادته. لكن اكتمال تحقيق تلك الإرادة لا تتم بإزالة بقية رموز العهد المطاح به وفي مقدمة ذلك كل الذين كانوا متنفذين في ذلك العهد.

 

اكتمال تحقيق شعب أبي القاسم إرادته
د. عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة