يرى مراقبون أن الإنترنت عجّل بثورة الشعب التونسي، بل يرى جزء منهم أنه أنتجها جنباً إلى جنب مع الهاتف المحمول والفضائيات. وأبطال الإنترنت هم تويتر وفيسبوك وويكيليكس.. ومن هنا أطلق البعض عبارة ثورة تويتر أو ثورة ويكيليكس..
الثورة الأولى في القرن الحادي والعشرين وأول ثورة في العصر الرقمي الإلكتروني، حيث تتزاوج المعلومات الهائلة من كل حدب وصوب مع اتصالات بسرعة البرق، جعل عقولنا البشرية البيولوجية غير قادرة حتى الآن على جمع الشظايا المعلوماتية المتناثرة، مما أدى بالمتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي أن يقول عن الاحتجاجات المصرية في «جمعة الغضب»: «إن الأحداث تمضي بسرعة وعشوائية دون إمكانية لتوقع ما سيحصل، لدرجة أن كلامي قبل خطابي هذا قد يتغير بعد نهايته حسب تغير الأحداث!!».
عدم قدرة المراقبين على توقع ما الذي سيحدث غداً، بل وربما الساعة القادمة، بعد بداية الاحتجاجات في تونس ثم لاحقاً في مصر، قد لا يستمر إذا تكررت مثل تلك التجارب «الإلكترونية»، فقد يلاحظ المراقبون توجهاً نمطياً لتأثيرات الإنترنت، ومن ثم يمكن على ضوء الأحداث طرح التوقعات، ولعل تجربة مصر في الاستفادة من الدرس التونسي يوضح تلك التوقعات ومن ثم إجراء خطوات استباقية كتوقيف شبكة الإنترنت والهاتف المحمول. لكن حتى الآن لا أحد يستطيع لا أن يتوقع ولا يحدس ما الذي سيحدث..
إنه الهاتف المحمول المراقب الأول لما يحدث.. المراقب الذي لا تضاهيه أي وكالة أنباء على وجه الأرض.. واليد العابرة التي تحمله لا ينافسها أي صحفي في العالم.. عين جاهزة تقتنص الحدث في كل زاوية وفي أي وقت، ثم تنقل المشهد في ثوان. وإذا كان الهاتف المحمول هو وكالة الأنباء العظمى فإن الإنترنت هو الصحافة الأولى التي تنشر المشهد وتوزع الأدوار. وفي المساء عندما تجتمع العائلة تحضنهم الفضائيات جامعة ما طاب لها من قطاف المحمول والإنترنت.. ومن هنا يعلن بعض المراقبين أن التكنولوجيا الرقمية أصبحت أقوى سلاح بيد الحرية؟
وعلى النقيض هناك من يرى أن ذلك مجرد مبالغات وأوهام ومنهم الكاتب الناشط السياسي البلاروسي، يفغني موروزوف الذي صدر له كتاب مؤخراً قبيل اندلاع الثورة التونسية بأيام، وعنوانه «The Net Delusion» عن وهم الإنترنت، وعنوان فرعي: كيف لا يتحرر العالم، نقلاً عن تيموثي جارتون آش. وهو يسخر وينفي ما يراه تفاؤلاً ساذج الرؤية ينتشر خاصة في أمريكا حيث دائماً يتم دمج التقدم التكنولوجي بالحرية.
ويرى موروزوف أن الزعم بأن تويتر وفيسبوك ساهما في الثورة الخضراء في إيران كان مبالغة. فهذه التكنولوجيا الجديدة تستخدمها أيضا الدكتاتوريات للمراقبة والإيقاع واضطهاد خصومها. ويؤكد بالأمثلة أن الإنترنت لا يعطل العمل المعتاد للسلطات السياسية. بل إن الساسة هم الذين يقررون متى يمكن الإطاحة بالدكتاتوريين، كما في حالة تونس، أو يتم حجب المواقع وضرب مدوني الإنترنت كما حدث في بلاروسيا (روسيا البيضاء) بلد المؤلف. ويشهد على قوة هذا المنطق دول مثل الصين وسوريا وليبيا حيث يتم التحكم الصارم جداً بشبكة الإنترنت، وتوجيه إمكاناتها لصالح السلطات.
لكن أيهما أقرب للصواب، أولئك الذين يرون أن الإنترنت يدعم السلطات القمعية أم أولئك الذين يرونه يدعم حرية الشعوب؟ يبدو أن هذه الثنائية بذاتها خاطئة.. والسؤال الخطأ يقود منطقياً إلى الإجابة الخطأ.. فالإنترنت سلاح ذو حدين أو حدود كثيرة، وأصحاب الثنائية السابقة يرون أحد الحدين لا كليهما..
والمثير للسخرية في تناقضات تأثير الإنترنت هو ردود الفعل المتناقضة من مصدر واحد، فها هي هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، تحذر دولاً مثل الصين وإيران بضرورة احترام حرية النشر والتعبير الإلكتروني وتطالب بعدم حجب جوجل وفيسبوك وتويتر ومنح المدونين في الإنترنت حريتهم في النشر، ولكنها في ذات الوقت تصادر حق نشر المعلومات في موقع ويكيليكس وتعتبرها خطراً على الأمن القومي الأمريكي بل وتطالب البوليس الدولي بإلقاء القبض على مؤسسها جوليان أسانج كإرهابي وباعتباره المطلوب الثاني بعد بن لادن.. وهنا تبدو كلمة تناقض أو نفاق متواضعة في وصف هذا المنطق!!
ورغم أن التكنولوجيا الحديثة سلاح ذو حدين، فإنها في الأغلب تميل لكفة الشعوب المضطهدة، لأنها ببساطة تكشف الأخبار التي كان يصعب أو يستحيل تسريبها، مما يدعم حرية المعلومة، جاعلاً العالم أكثر انفتاحاً وأكثر معلومات، والناس مع المعلومات الصحيحة يتخذون قرارات أفضل لأنفسهم ولمجتمعهم. وهنا نجد أن التحدي الكبير ليس في مدى توفر المعلومات بل في مدى سلامتها.
وتلعب الفضائيات دوراً كبيراً في تقدير سلامة المعلومات التي تنطلق من الإنترنت والهواتف المحمولة، حيث تستضيف مفكرين ومحللين وقادة ميدانيين وشهود عيان للقيام بهذه المهمة. وجميعنا يدرك دور قناة الجزيرة في أحداث ثورة تونس، حتى أن البعض بالغ واعتبر أنها لعبت دوراً أساسياً في تلك الثورة.
عموماً، يبدو أن مقياس سلامة المعلومات خاضع لمعايير غير ثابتة وتعتمد على الثقة المسبقة في مصدر المعلومات.. يذكر الناشط التونسي سامي بن غربية من منفاه في ألمانيا أثناء بداية الاحتجاجات في تونس، أن مستخدمي الإنترنت في تونس يصلون إلى 3.6 مليون وأن نصفهم يستخدمون فيسبوك، وأن الناشطين في الإنترنت يكملون عمل الناشطين على أرض الواقع.. «إنهم القاعدة الشعبية، كلاهما في الإنترنت وخارجه.. في أرض الواقع الناس يجمعون أصدقاءهم الذين يثقون بهم، وفي مواقع الإنترنت الناس تثق ببعضها البعض». وفي خطاباته الأخيرة قبل رحيله أكد زين العابدين بن علي من ضمن عدة تأكيدات أساسية، على توقف كافة أشكال الرقابة على الإنترنت واحترام حرية التفكير والتعبير، مما يشير إلى الأهمية العظمى التي أصبح ينالها الإنترنت، حتى أن بعض الدول الأوربية تعتبره حالياً من ضمن أساسيات الحياة العصرية..
إنها الشبكة العنكبوتية التي أسقطت الحدود والحواجز وجمعت التناقضات في لحظة واحدة بمكان واحد في انفجار معلوماتي.. الإعلام يتحول من العالم العمودي (التسلسل الهرمي) إلى عالم أفقي من شبكات الاتصال.. الإعلام يتحرر من قبضة السلطات ويتشكل عبر الإنترنت في شبكة اتصالات واحدة تضم ملايين الأفراد عبر القارات، وكل الدول تائهة لا تعرف إلى أين ستوجهنا تكنولوجيا الموجة الرقمية، وكيف ستقودنا..!؟