لا يماري أحد في أن ناطحات السحاب مظهر مدني جذاب، موجود منذ عشرات السنين في حواضر الغرب والشرق، وثبت أركانه وقواعده في (دبي) في أثناء العقدين المنصرمين. وها نحن نشاهد كلما سرنا في طريق الملك فهد بالرياض ناطحتين من أجمل مظاهر العمران.
الأولى منها هي برج الفيصلية الذي شيدته مؤسسة الملك فيصل الخيرية. فوق ذلك قرأت في بعض الصحف قبل عدة أشهر عن نية (مؤسسة المملكة) في تشييد ناطحة سحاب في جدة يراد منها أن تكون الأطول في العالم. وقلت في نفسي: نحن نسير على خطى (دبي) في تطاول الحفاة العراة بالبنيان - كعلامة من علامات آخر الزمان، كما ورد في أحد الأحاديث النبوية - إن كان صحيحاً - لكن الذين ينفقون مئات الملايين على بناء ناطحات السحاب ليسوا حفاة عراة، بل أصحاب مال ورجال أعمال. والذي يسير في طريق الشيخ زايد في دبي يرى ناطحات السحاب متراصة باسقة كأنها أشجار غابة - ومن هنا أوردت لفظ زراعة الناطحات. ومع إقراري بأهمية الناطحات كمعلم مدني وموقع استثماري ومظهر (برستيج)، فهل هي تلبي حاجة إنسانية ملحة؟ في زمن قريب من زمن هذا الخبر لفت نظري خبر نشرته جريدة (الجزيرة) في عددها رقم (13761) وتاريخ 19-6-1431هـ عن مريض قعيد الفراش منذ سنوات جراء إصابة في الحبل الشوكي شلّت أطرافه، وأن الأطباء توصلوا إلى إمكانية معالجته بزراعة الخلايا الجذعية. ولكن بسبب كلفتها العالية فإنه يأمل في المساعدة. وعند سؤال ذوي الاختصاص كانت إجابتهم أن هذا أمل المستقبل، وأن موضوع استخدام الخلايا الجذعية في علاج تلف الأعضاء - ومنها (الحبل الشوكي) - لا يزال تحت التجربة. بعد خبر (الجزيرة) بخمسة أشهر طالعت في مجلة (دير شبيجل) الألمانية خبراً عن تجربة من هذا النوع أجريت في مدينة (أتلانتا) بالولايات المتحدة على مريض أصيب حديثاً في حبله الشوكي. إلا أنها تجربة تحتاج لوقت حتى يتبين نجاحها. وتحدثت المجلة في نفس الخبر عن قيام فريق بحثي من شركة للمنتجات البيولوجية بإنبات خلايا جذعية جنينية يتكون منها خلايا نوعية لتعويض نسيج تالف من شبكية العين.
المسألة إذن في غاية الجد، والعلماء يسعون بأقصى جهدهم وعلمهم وراء تحقيق هدف من شأنه أن يسعد مئات الآلاف من البشر ذوي الأمراض المزمنة أو المستعصية.
فما هي هذه الخلايا التي تتعلق بها آمال الباحثين عن المعرفة والباحثين عن العافية؟
إنها الخلايا التي تتكون منها الأجنة في أول أطوار نموها بعد الإخصاب وقبل تخلّقها. فهي في هذا الطور غير (مميزة) أي أنها قابلة بفعل تعليمات الجينات (المورثات) للتطور إلى خلايا نوعية تتخلق منها مختلف الأعضاء. ولا تختفي الخلايا الجذعية بعد نمو الأعضاء، بل يبقى جزء منها متوافراً حسب مراحل نمو الجنين. ولهذا فهي موجودة في دم الحبل السري وفي نخاع العظم، وبأعداد أقل في بعض أعضاء الجسم. وبعضها يؤدي وظيفة معلومة مثل الخلايا الجذعية في نخاع العظم - حيث تنتج خلايا الدم الحمراء والبيضاء مثلاً - وبعضها الآخر (الذي يوجد في أعضاء مكتملة النمو) لا يعرف العلماء على وجه التحديد سر بقائه الدائم.
ولله في خلقه شؤون، فقد تكون لها وظائف اقتضت حكمة الله أن يودعها فيها وتسمى الخلايا الجذعية التي توجد في الأجنة أو دم الحبل السري بالخلايا الجذعية الجنينية، أما الخلايا الموجودة في الأعضاء المكتملة النمو فتسمى الخلايا الجذعية الجسدية.
وفي كل الأحوال فإن عملية زرع الخلايا الجذعية تتطلب وسائل تقنية معقدة يمكن من خلالها - أولاً تكثيرها بما يكفي للزرع، وثانياً توجيهها للتحول إلى الخلايا النوعية المختصة بالعضو المراد تعويض تلفه. وهذا ما تسعى إلى إنجازه البحوث الحيوية الجزيئية فهذه البحوث (ومنها ما يسمى بالهندسة الوراثية) فرع جديد سريع التطور. وقد حققت نجاحاً كبيراً في دراسة الجينات وكشف الجينوم البشري بالكامل، وعلاقة بعض الأمراض الوراثية بخلل في جينات معينة يمكن تحديد مواقعها على الكروموزومات (الصبغيات) داخل نواة الخلية، ومن ثم محاولة علاجها بجينات سليمة، ولكننا نتحدث هنا عن الاستخدام العلاجي للخلايا الجذعية - أي زرعها لتعويض عضو فاقد لوظيفته.
وفي بلادنا العزيزة - كما في أي بلد في العالم - يوجد الآلاف من مرضى الفشل الكلوي والتليف الكبدي، والداء السكري والسرطان، وتلف عضلة القلب، وأمراض الجهاز العصبي والعضلي وشبكية العين، وضحايا حوادث المرور، وهؤلاء إما أنه لا يوجد علاج ناجع لأمراضهم، أو أنه لا يوجد متبرعون بأعضائهم ومن حق هؤلاء الآلاف - مثل ذلك المصاب بشلل الأطراف الذي ذكرناه في أول المقال - أن يعالجوا، إن توافر العلاج. وما هؤلاء المرضى إلا آباؤنا أو أمهاتنا أو إخوتنا أو أولادنا. ومن المنطقي أن تدفعنا المآسي التي يعانون منها إلى السعي للمشاركة مع الباحثين والعلماء في دول العالم في البحث عما يخلصهم من هذه المعاناة. نحن الآن على وشك أن نفعل ولكن على استحياء.
مدينة الملك فهد الطبية أنشأت قسماً لمثل هذه الأبحاث في كلية الطب التابعة لها. وفي مستشفى القوات المسلحة بالرياض كرّمت إحدى الطبيبات السعوديات لأبحاثها في الجينات. وكلية الطب بجامعة الملك سعود أنشأت مركزاً حديث التجهيز لأبحاث الخلايا الجذعية. والشؤون الصحية بالحرس الوطني أنشأت مركزاً للأبحاث الطبية وتعمل على تنفيذ مشروع بنك للخلايا الجذعية. أما مستشفى الملك فيصل التخصصي فإن نشاطه في مجال الأبحاث الحيوية الجزيئية مستمر منذ سنين، ويوجد به بنك للخلايا الجذعية، ويقوم منذ ما يقارب عشرين عاماً بزراعة نخاع العظم. ومجلس الخدمات الصحية شكل قبل ثلاث سنوات لجنة وطنية للإشراف على بنوك الخلايا الجذعية. يوجد إذن في بلادنا نواة نشطة - أو على الأصح نويّات، لأن كل نواة تعمل بمعزل عن الأخرى - للقيام بأبحاث ميدانية ومعملية في الحقل الحيوي الجزيئي. ومع الحاجة الماسة فإن الآمال عريضة من هذه الأنشطة البحثية. لكن الموارد محدودة. وهي على ضآلتها متفرقة. وليس المقصود التقليل من شأن هذه الموارد المتاحة فعلاً، ولكن مثل هذه الأبحاث تتطلب وقتاً وجهداً وقوى بشرية متخصصة وتجهيزات معقدة. وكل هذا عالي التكلفة. لكن بدون تغطية كاملة لكلفة الأبحاث، فإننا سنظل قاصرين عن بلوغ الهدف، ثم أن مراكز الأبحاث ينقصها التكامل والتنسيق فيما بينها. وربما تكون بعض الأبحاث قائمة على اجتهادات شخصية وطموحات فردية. وليس من مأخذ على هذا لأن الدوافع الذاتية أساس للانطلاق ومصدر للطاقة ومحفز للنشاط إلا أن الطاقة وكذلك الموارد المتاحة قد تتبدد وتفقد فاعليتها بسبب التجزئة والتكرار والازدواجية. ومن الطبيعي أن يكون لكل جهة اعتماداتها التي لا تستطيع تجاوزها ولا يستطيع مركز البحوث في تلك الجهة فرض أولوياته التي تتنافس مع أولويات أخرى بالجهة نفسها. ومثل هذا الوضع لا يصلح لأبحاث الخلايا الجذعية التي تهدف لاستكشاف إمكانية استخدامها للعلاج، ولا يحقق للمملكة مركزاً مرموقاً في سباق هذه الأبحاث. وأمام هذا الهدف الواضح الكبير وما يتطلب تحقيقه من إمكانات علمية وتقنية ضخمة وموارد مالية سخية وعلماء متخصصين، فلا مناص للمملكة من وضع برنامج وطني يكون مظلة لأبحاث الخلايا الجذعية. ويخصص له اعتمادات للصرف عليه تودع في بند مستقل ضمن ميزانية إحدى الجهات (مجلس الخدمات الصحية مثلاً) على غرار برنامج الكشف المبكر للأمراض الاستقلابية عند حديثي الولادة الذي اعتمد في ميزانية وزارة الصحة (ولكن بدون قيود بيروقراطية) ويشرف على البرنامج مجلس علمي يضع استراتيجية الأبحاث وأهدافها ويوزع المسؤوليات والمهام والموارد بين المراكز القائمة بهذه الأبحاث. وفكرة البرنامج ليست جديدة، فقد سبق للجنة الوطنية المشرفة على بنوك الخلايا الجذعية أن أوصت بإيجاد هذا البرنامج. بل إن القطاع الأهلي يمكنه أن يساهم في هذا البرنامج بإنشاء صندوق خيري يوقف لأبحاث الخلايا الجذعية.
فكرة تخصيص اعتمادات كبيرة لتمويل برنامج بحثي استراتيجي تبنتها الدولة قبل عامين أو ثلاثة عندما وجه المقام السامي - حفظه الله - المراكز البحثية الكبرى في جامعات المملكة ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بإعطاء تقنية النانو الأولوية في البحث.
إن الجدوى من تخصيص أموال كافية لصالح أبحاث الخلايا الجذعية في إطار برنامج وطني يحقق التنسيق والتعاون والتكامل وتضافر الجهود بين مراكز الأبحاث، أمر لا يحتاج إلى تأكيد، لأنه يفتح نافذة أمل أمام المرضى اليائسين.
وهذه جائزة الملك فيصل العالمية تشهد بذلك. فقد تم منح الجائزة هذا العام لاثنين من رواد أبحاث الخلايا الجذعية هما الياباني: شينيا يماناكا، والأمريكي: جيمس تومسن.
أما الجهة المانحة فهي مؤسسة الملك فيصل الخيرية، تلك المؤسسة التي شيدت أيضاً برج الفيصلية الجميل، ناطحة السحاب الأولى في الرياض.