أكاد أجزم أن توقيت الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2010م لم يكن الموعد المخطط له من قبل الجهة المنظمة؛ أي «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية» لإقامة محاضرة «إحياء التراث في بيت المقدس»؛ ولم يكن أيضاً في وارد المحاضِرة الأستاذة لبنى سليمان؛ عميد مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية ببيت المقدس؛ ذلك أن المحاضِرة قدمت من فلسطين الأسيرة وبالتحديد من قلبها النازف القدس الشريف، وبالتحديد أكثر من حي أبوديس حيث مقر «مؤسسة إحياء التراث» أو حي العيزرية حيث مقر إقامة المحاضِرة، والتحرك من ذاك المكان يخضع لصعوبات جمة أقلها وخزاً في الضمائر تلك الحواجز المذلة وما يرتبط بها من آلام نفسية وفكرية وجسدية في ظل احتلال صهيوني حاقد وتشرذم فلسطيني مقيت!
فإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن التوقيت جاء مصادفة تنطبق عليها مقولة: «رب صدفة خير من ألف ميعاد»، فلهذا التاريخ (الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني) ميزان خاص في المنظور الإنساني بوجه عام والمنظور الفلسطيني بوجه خاص؛ تقام فيه الملتقيات والمنتديات وتهب فيه الشعوب الحرة معبرة عن استنكارها ورفضها وسخطها، واستمر الأمر على هذا النحو حتى انطلاق الشرارة الأولى لمحادثات مدريد ومن قبلها أوسلو إذ بات الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني يمر عنا مرور الكرام؛ وكأن الارتماء في حضن المؤامرة بلغ مداه!
لكن الأمر هنا يختلف، فها هي -ولا أقول المصادفة بل- مشيئة الله سبحانه وتعالى ترسم أمام العيون المبصرة والقلوب البصيرة أن هذا الشعب أبداً لن يسقط الراية، فإذا كان الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1917م؛ أي قبل ما يقارب المائة عام، قد شهد (وعد بلفور) الموصوف في القاموس الفلسطيني بالوعد المشؤوم لأنه وببساطة شديدة وعد العصابات الصهيونية بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، فها نحن اليوم؛ الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2010م، وفي الركن الثقافي المتجدد لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية نقف بأفئدتنا ودمائنا مع المرابطة الفلسطينية لبنى سليمان وهي تروي حكاية «مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية» ومسيرة التحدي ليس فقط لوعد بلفور، بل ولكل المؤامرات والمتآمرين من خلال دورها البارز في المحافظة على هوية الأرض ودماء شعبها وتاريخها وإرثها الحضاري.
وقبل أن أنقل لك قارئي الكريم بعضاً مما جاء في هذه المحاضرة، أود أن أسجل الشكر والامتنان لمركز الملك فيصل للبحوث الإسلامية ممثلاً في رئيس مجلس إدارته صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، وأمينه العام سعادة الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد، وكافة الإخوة القائمين عليه، مثمناً الدور الكبير الذي يؤديه هذا المركز نحو قضايا الأمة وهمومها ولاسيما ما يتصل بفلسطين شعباً وأرضاً وتاريخاً.
وكذلك أسجل الشكر لمدير الحوار الأخ العزيز الأستاذ إبراهيم باجس الذي نجح في تقديم المحاضِرة تماماً كما نجح في إدارة الحوار وإبقائه في إطار موضوع المحاضرة، وإلا فأطراف القضية الفلسطينية مترابطة ومتصلة رغم تشعبها.
والشكر بالطبع أخص به محاضِرتنا الكريمة التي تجشمت عناء السفر بمرارته وعذاباته كي تضعنا أمام محطات متعددة بعضها أسكن السعادة في قلوبنا وبعضها الآخر أدمى هذه القلوب.
بالطبع لم يغب عن السيدة لبنى تسجيل انبهارها بما شاهدته في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية من قدرات وإمكانات عالية وكبيرة وشاملة وخصوصاً ما يتعلق منها بإحياء التراث والحفاظ عليه في إشارة منها إلى خلية النحل العاملة وآليات العمل في قسم الترميم وصيانة المخطوطات والوثائق النادرة وتعقيمها ثم فهرستها وتصنيفها وتصويرها.
ثم انتقلت السيدة لبنى إلى واقع المؤسسات المقدسية الثقافية والاعتداءات التي تتعرض لها من الاحتلال الإسرائيلي، وبالإضافة إلى مؤسسة إحياء التراث هنالك العديد من المؤسسات المختصة في إحياء التراث منها مؤسسة الأقصى للوقف والتراث، وبيت الشرق، وإسعاف النشاشيبي، ومكتبة البديري، والمكتبة الخالدية، وأشارت إلى أن هذه الاعتداءات تمثل جزءاً من الهجمة الصهيونية الشرسة في مسيرة التهويد وخصوصاً لمدينة القدس، عبر طمس المعالم العربية الأصل والكنعانية الجذور من خلال سرقة التراث وتدمير أي شيء يثبت الحق الفلسطيني في المدينة المقدسة، وتزييف الحقائق، وسياسة التطهير العرقي التي تقوم بها المؤسسة الصهيونية، وترحيل العائلات الفلسطينية المقدسية والاستيلاء على بيوتها وعقاراتها، وحفر الأنفاق، ثم جدار الفصل العنصري وما أحدثه من آثار سلبية على المجتمع الفلسطيني ولاسيما في مجال الحركة والتنقل من مدينة إلى مدينة ومن حارة إلى حارة.
وهذه المؤسسات تقوم بدور بطولي في الصمود والرد على الاعتداءات الصهيونية من خلال تنظيم الفعاليات والأنشطة التي تؤكد عروبة الأرض وتدحض الادعاءات الصهيونية رغم ما تواجهه من عراقيل لسير عملها ومنع إقامة أنشطتها، وإقصاء العاملين عنها بالسجن، وإغلاق مقراتها أو اقتحامها ومصادرة محتوياتها، وأوضح مثال لنتائج هذه الاعتداءات ما تعرضت له «بيت الشرق وجمعية الدراسات العربية» حيث تم إغلاقها ومصادرة محتوياتها من الوثائق، ومثال آخر مؤسسة إحياء التراث التي تمثلها السيدة لبنى وتتحدث عنها هنا كمثال للمراكز والمؤسسات الثقافية الأخرى وما تعانيه من اعتداءات.
فمؤسسة إحياء التراث هي المركز الأرشيفي الأكبر إن لم تكن الأوحد من حيث حجم قدراتها وإمكاناتها في مجال جمع التراث العربي الإسلامي في كافة المدن الفلسطينية وبخاصة القدس الشريف، وفهرسته وتصنيفه وأرشفته، بالإضافة إلى ريادتها في ترميم وصيانة هذه الوثائق والمخطوطات وحفظها، وقد بلغ مخزون مؤسسة إحياء التراث خمسة ملايين وثيقة عربية وعثمانية تمثل حقباً تاريخية مختلفة؛ حقبة الدولة العثمانية، وحقبة الانتداب البريطاني، وحقبة الحكم الأردني، بتواريخ وموضوعات متنوعة، بالإضافة إلى أرشيف كبير من المخطوطات النادرة الأصلية والمصورة، وتحاول قوات الاحتلال فصل هذه المؤسسة عن مدينة القدس وقطع أي صلة بينها وبين المؤسسات الأخرى والجامعات والمراكز الموجودة خارج أو داخل الجدار مما أثر سلباً على الباحثين وطلبة العلم وخصوصاً الفلسطينيين، بالإضافة إلى الآثار السلبية المترتبة على وجود معسكرات الجيش المتمركزة في حدود المؤسسة مما جعل مجموعة من الفلسطينيين يتركون العمل داخل المؤسسة بسبب الاعتداءات التي يتعرضون لها يومياً من جهة، ولعدم حصولهم على تراخيص للوصول إليها من جهة أخرى، والمؤسسة في ظل هذا الوجود العسكري المحيط بها تخشى من تنفيذ عملية اقتحام مباغتة كتلك التي حلت ببيت الشرق، وبالتالي فقدان مخزونها التراثي الكبير وهذا المخزون ليس له نسخة احتياطية حتى يومنا هذا.
ولخصت السيدة لبنى الوسائل التي تسعى مؤسسة إحياء التراث لتحقيقها في نقاط محددة لا أظن تنفيذها يحتاج إلى تلك الموازنة الكبيرة، ومن هذه الوسائل تحويل مخزونها التاريخي من وثائق ومخطوطات وسجلات نادرة من مادة ورقية إلى إلكترونية ونقل نسخ احتياطية منها لمؤسسات مماثلة خارج فلسطين، وتوفير مخازن آمنة لحفظ أصول هذه الثروة التراثية على نحو يحول دون وصول المحتل إليه، وتدريب الكادر الفني العامل في مجال الصيانة والتعقيم والترميم والتصنيف والفهرسة والتكشيف، وتوفير أداة بحث متقدمة تعطي نتائج دقيقة وسريعة ليتمكن الباحثون من الوصول إلى المعلومة بيسر وسهولة لإجراء بحوثهم ودراساتهم.
أما وقفتي في ثنايا هذا الملتقى المهم فتنقسم إلى شقين؛ الشق الأول يتصل بمداخلة محزنة من أحد الإخوة يرى أن الحديث عن إحياء التراث وغيره لا يجدي نفعاً في ظل الانقسام بين الإخوة في فلسطين، منادياً بإتمام المصالحة أولاً وقبل البحث في إحياء التراث أو غيره! لقد تألمت في واقع الأمر لحالة اليأس التي يستسلم لها الزميل الفاضل، لكني عدت أتأمل ما آلت إليه الحال الفلسطينية بسبب تداعيات هذا الانقسام المر، فوجدتني أتفهم موقف الرجل وغيرته، ثم ما لبثت أن عدت إلى شموخ الشعب الفلسطيني فوجدتني أحمد الله سبحانه وتعالى الذي جمّله بالصبر وأمده بدماء ثائرة وروح منتفضة ونفس لا تقبل أن يتسرب اليأس إليها! فأطمئن زميلي العزيز بأن الانقسام الفلسطيني الذي نشهده اليوم ليس الخلاف الأول الذي يعصف بالقضية الفلسطينية ويطعن المناصرين للحق الفلسطيني، وعلى الرغم من حجمها وتأثيرها إلا أن الشعب الفلسطيني تجاوزها تماماً كما سيتجاوز ما يحدث اليوم وإن طال به الوقت، لكن الحياة أبداً لن تتوقف ومسألة إحياء التراث مثلها مثل الزواج، والتعليم، والصحة، ولك أن تلخص المفهوم بأنها أدوات مقاومة!
والشق الآخر من وقفتي يتصل بسؤال وضعته بين يدي المحاضِرة قلت فيه: «مَن الجهة المسؤولة عن تمويل مؤسستكم، وهل تطالبونها بالدعم، فإذا كانت الجهة المسؤولة هي السلطة الوطنية الفلسطينية فالسلطة لديها الموازنات القادرة على مثل هذه المهمة؟
ومن خلال إجابتها اتضح أن السلطة الوطنية الفلسطينية هي المسؤولة عن مؤسسة إحياء التراث وعن شقيقاتها من الناحيتين الإدارية والمالية، وهنا أتساءل حقيقة: ماذا فعلت السلطة الفلسطينية - وأين كانت - حينما تعرض «بيت الشرق» للاقتحام والسرقة من قبل جيش الاحتلال؟ وماذا عن المخزون الثقافي المسروق؟ هل من خطوات عملية معلنة لاستعادته؟ ومن جهة أخرى أتساءل أيضاً: هل تعجز السلطة عن تقديم الدعم اللازم لهذه المؤسسة وغيرها لتقوم بواجباتها الموكلة إليها؟
وهنا أخرج من دائرة «أهل مكة أدرى بشعابها»؛ هذه الدائرة التي أسهمت عملياً في الوضع المأساوي التي تسكنه فلسطين اليوم، وأسجل همسة عتاب عاجلة؛ عتاب الأرض والدم والتاريخ، إلى أصحاب رؤوس الأموال وهم كثر ولله الحمد، ولا يقتصر عتابي على رجال الأعمال الفلسطينيين فقط، بل والعرب والمسلمين وغيرهم من أصحاب الضمائر الحية: أين هم وأموالهم من مواقف العز؟ هاهي السيدة لبنى سليمان؛ عميد مؤسسة إحياء التراث في القدس تناديكم من أجل فلسطين والحق الفلسطيني، فهل من مجيب؟!
كاتب فلسطيني - الرياض