الدكتور محمود المبارك، خبير القانون الدولي، له من اسمه أوضح نصيب؛ فمواقفه محمودة، وأسرته أحسائية مباركة، كانت - وما زالت - أسرة فاضلة؛ منها العلماء والأدباء والشعراء الذين لهم مكانة سامية، عطاء فكرياً وجهوداً عملية مجتمعية.
كنت قد عرفت شيئاً من مواقف أخي الدكتور محمود المقدرة المحمودة عندما قرأت له مقالة قيِّمة في صحيفة الحياة بتاريخ 22-1-1430هـ عنوانها: «عالم قانوني جديد بعد نهاية الحرب على غزة». ثم سعدت بمقابلته عند زيارتي للأحساء، التي أُكنّ لها ولأهلها مودة صافية.
في تلك المقالة أوضح الدكتور محمود - وهو الخبير بالقانون الدولي - أن عدوان الصهاينة على غزة وأهلها جمع كل أنواع الجرائم في القانون الدولي؛ وهي الجرائم التي صنفتها المحكمة الجنائية الدولية إلى: جرائم إبادة، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم عدوان. وفصَّل تفصيلاً جلياً كل ما ينطبق من تلك الجرائم المرتكبة مع كل قسم من هذه الأقسام الأربعة، وذكر أنها جرائم مكتملة أركانها مسجَّلة بالصوت والصورة، ومؤكَّدة من قِبل منظمات حقوقية عربية وغربية. لكن المؤسف - كما قال الدكتور -: «أن الدول العربية لم تتحرك بعد تجاه بدء إجراءات دعوى ضد المسؤولين الإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية. بل إن الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية الرافض لدعوة الحقوقيين الدوليين لمساندتهم في رفع إجراءات الدعوى، وعدم تحرك ثلاث دول عربية أعضاء في تلك المحكمة بأي خطوات نحو هذا، يثير أكثر من سؤال».
أما كاتب هذه السطور فيقول: لقد اتضح أن من العرب، بل ومن الفلسطينيين أنفسهم، مَنْ فرحوا بالعدوان الصهيوني على غزة، بل اتضح أيضاً أن هناك من هؤلاء مَنْ وقفوا ضد تقرير جولدستون المدين للجرائم الصهيونية.
وكنت قد أوردت الكلام السابق من مقالة الدكتور محمود المبارك في أولى حلقات نُشرت في صحيفة الجزيرة بتاريخ 7-2-1430هـ بعنوان: «بعد وقوف المجزرة هل تستمر المسخرة؟»، ثم نشرت المقالة ضمن كتاب عنوانه: «عام من الذل والانخداع» صدر من دار الفكر بدمشق هذا العام. وقد علقت على ذلك الكلام الذي كتبه الدكتور محمود بتأييد وبما توقعت أن يحدث في ضوء ما شاهدته وشاهده الكثيرون من مواقف الزعامات العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالذات، وهو استمرار المسخرة. وها هي المسخرة مستمرة، ومن علامات استمرارها ما حدث تجاه تقرير جولدستون عن مجزرة غزة كما أشير إليه سابقاً.
ذلك موقف محمود من مواقف الدكتور محمود تجاه قضية أمتنا الأولى كما يراها المخلصون من هذه الأمة، وكما يضطر إلى إظهار ذلك المنافقون المتاجرون بها، وهي قضية فلسطين، التي بدأت إجراءات صفقة بيعها واضحة قبل عقدين من الزمن في أوسلو، ويحاول من يحاولون الآن إكمال تلك الإجراءات برعاية دولة متسلطة على أمتنا في أمكنة عديدة، داعمة للكيان الصهيوني دعماً غير محدود.
أتوقف الآن عن مواصلة الحديث عن هذا الموضوع لأنتقل إلى قضية أخرى من قضايا هذه الأمة كان لأخي الدكتور محمود موقف رائع في إيضاحها، وهي قضية أفغانستان وجرائم أمريكا وجنود إبليس أجمعين معها تجاه ذلك الوطن الضحية من ضحايا الإرهاب المرتكب ضد المسلمين عرباً وغير عرب.
في مساء يوم الأربعاء الماضي كان من حُسن حظي أن حظيت بمشاهدة مقابلة أُجريت عبر قناة الجزيرة مع الدكتور محمود المبارك حول أفغانستان وما يرتكبه المحتلون لها من جرائم فظيعة ضد سكانها؛ رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفال. ومما يلحظه المشاهد لتلك المقابلة مقدرة الدكتور محمود على إيضاح مخالفة الجرائم المرتكبة هناك للقانون الدولي، ابتداء من العدوان الأمريكي على أفغانستان واحتلالها وارتكاب الجرائم الفظيعة في ذلك العدوان وهذا الاحتلال، واستمراراً في ارتكاب تلك الجرائم. وإضافة إلى تلك المقدرة غير المستغربة على خبير بالقانون الدولي، حريص على تبيان الحق أمام المشاهدين، فإن مما يلحظه المشاهد أيضاً قدرة الدكتور على الاطلاع على كثير مما كتب حول الموضوع المتحدث عنه، وبخاصة ما كتبه أمريكيون وغربيون آخرون، وما صدر من اعترافات المجرمين الأمريكيين أنفسهم، بمن فيهم رجال الاستخبارات المركزية الأمريكية، بارتكاب جرائمهم البشعة المقززة، وما قيل موثقاً عن المسؤول الأول بارتكابها، وهو الرئيس بوش الابن. وكان مما أوضحه الدكتور وثيقة نُشرت قبل أيام قليلة من قبل تلك الاستخبارات نفسها، عنوانها: «ماذا لو علم العالم أن أمريكا هي المصدِّر للإرهاب؟!».
وكان مما ذكره الدكتور محمود عن الرئيس بوش الابن ماضيه النزق قبل توليه الرئاسة، وهو أمر أشارت إليه والدته نفسها أثناء الانتخابات لتلك الرئاسة، ثم تحوله إلى هوس ديني ذكره أحد من كتبوا عنه من الأمريكيين بلغ إلى حد أنه كان يقول: «إن الرب يوحي إلي كل ليلة، وإنه أوحى إلي أن أغزو أفغانستان»!. وقبيل عدوانه على العراق واحتلالها اتصل بشيراك يخبره بأنه ذاهب إلى محاربة يأجوج ومأجوج في بابل خوفاً من تدميرهم إسرائيل.
ومما ذكره الدكتور محمود من جرائم أمريكا البشعة في أفغانستان موثقاً توثيقاً معتمداً على مصادر أمريكية وغربية حول تلك الجرائم الجريمة التي ارتكبت بفظاعة ضد أكثر من ثمانية آلاف من أنصار طالبان بعد أن استسلموا بشرط عدم المساس بحياتهم. وكانت تلك الجريمة في بدايات ذلك الاحتلال لأفغانستان، ولقد وعد أوباما بالتحقيق المستقل في تلك الجريمة، لكنه تخلى عن وعده، تماماً كما تخلى عن وعوده المتعددة، وأثبت أن السياسة الأمريكية الشريرة لا تتغير جوهرياً بين رئيس وآخر، وأنه لم يكن هناك فرق جوهري حقيقي بين سياسة رئيس أبيض وزيرة خارجيته سوداء وسياسة رئيس أسود وزيرة خارجيته بيضاء، وبخاصة إذا كان من ستُملى عليه تلك السياسة عربياً أو مسلماً.
وما أوضحه الدكتور محمود في المقابلة من جرائم أمريكا، التي يترأس قواتها الآن في أفغانستان رجل من أسوأ المجرمين، ماضياً وحاضراً، ومن جرائم أنصارها هناك من دول مختلفة يجمعها الكره للمسلمين، كثير جداً، وأتمنى أن يطلع عليه الكثير من أفراد أمتنا ليروا كيف تصل عداوة من يدعون أنهم أنصار للعدل إلى حدود لا يتصورها العقل. ومع ذلك ما زال هناك من يتجاهلون الحقائق، ويزعمون أن أمريكا صديقة للعرب والمسلمين.
ومن المسائل الجديرة بالذكر، التي أشار إليها الدكتور محمود في مقابلته الدالة على عمق تتبعه لقضايا أمته وإخلاصه لها، مسألة المخدرات في أفغانستان. وقد ذكر أن تلك البلاد حين كانت طالبان تسيطر على أكثر أراضيها نالت شهادة تقديرية عالمية في مكافحة المخدرات، أما الآن فتحت نير الاحتلال الأمريكي الثقيل وطأة وإجراماً أصبحت أكبر مصدر لتلك المخدرات، وأصبح أقارب المتعاونين مع قوات الاحتلال من المسؤولين الأفغان من أكبر تجارها إن لم يكونوا أكبرهم، مدعومين من الاستخبارات المركزية والأمريكية، ومشجعين بوسائل قذرة متنوعة. ولفت الدكتور النظر إلى أن أمريكا سبق أن غزت دولة مجاورة لها بحجة القضاء على المخدرات الموجودة فيها، لكنها لم تقم بأي خطوة للحد من زراعة المخدرات في أفغانستان طوال احتلالها، الذي مضت عليه الآن تسع سنوات، بل إن يدها العفنة المتمثلة في استخباراتها تشجع على تلك الزراعة، كما ذُكر سابقاً.