لقد تبوأت الفلسفة الشكية عند حجة الإسلام مكانة استثنائية ومن ثم حظيت بقيمة إضافية لدى لفيف من المتواصلين مع الترِكة الغزالية وجلّهم يضعه ..
- طبعاً مع الاعتراف بأصالته في هذا السياق- في حالة مقارناتية مع فلسفة الكوجيتو لديكارت: أنا أفكر، إذن فأنا موجود - مع أن هذا يقال إنه في الأصل للشيخ الرئيس- وذلك باعتبار أن ديكارت الرائد العقلي للفلسفة الحديثة قد استقى أصل فلسفته من ميراث أبي حامد منطلقا من أرضيته الثقافية وعلى ضوء عمليتي التأثير والتأثر.
ولو أنعمنا التمعن في فلسفة المنهج الشكي عند الغزالي رحمه الله لألفيناها كوج ود فعلي راسخ تبدو على مستويين سأتناولهما باقتضاب:
الأول: مستوى عملي وهو ما عايشه وتلظى بأواره من تلك الخواطر التي سنحت تترى تساور ذاكرته وتنقدح في أغوار وعيه فشايعها حتى عمقت شكوكه على نحو مرضي -كما في تأكيده على ذلك- حيث كان لها انعكاساتها البالغة السلب على نشاطه التفكيري.
لقد تجشَّم عناء مكابدة تراكم سحب الشك التي حينما تخترق الجنان فتغلف ملامحه وتهيمن على مفاصل الوعي وتحكم قبضتها على منافذه فإنها آنئذ تفقد العقل القدرة على التحكم وتُحجّم أداءه على صعيد الإرسال والاستقبال ومن ثم تلقي بظلالها المكفهرة على المنحى السيكولوجي فيخفت ألقه ويضمر بريقه وتجتاحه مشاعر الغربة التي تجسد بداية النهاية في سبيل الاضمحلال. تلك الحالة أو الأزمة على الصعيد النفسي هي ما عايشها أبو حامد حتى أضناه الداء وفتكت به ألوان المعاناة التي امتصت قواه فألزمته مخدعه وجعلته رهين المحبسين حتى أنه لم يبرح مأواه/ منفاه الاضطراري إلا بعد عزلة مقلقة وحافلة بالتحولات المثيرة للجدل وقد روى تلك التجربة المريرة مجليا ما اعتراه من حمم الحزن الذي «بطلت معه قوة الهضم ومرارة الطعام والشراب فكان لا ينساغ لي ثريد ولا تنهضم لي لقمة وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم في العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم» (المنقذ من الضلال ص85) وهذا السِّفر بالمناسبة يعتبر تدوينا لسيرته الفكرية ورصدا ًلتحولاته.
إن تغلغل معطيات الشك في أعماق وعيه أحالته إلى شخصية غريبة الأطوار حيث لا يكاد يستقر على منهج إلا ويبرحه إلى ضده، فثمة أكثر من غزالي! ثمة غزاليون كثر فعن أي غزالي نتحدث؟! هل نتحدث عن الغزالي الفقيه، أم الغزالي المتصوف أم الغزالي المتكلم أم الغزالي المتمنطق أم الغزالي المتفلسف، أم الغزالي الأصولي؟! أمامك شخوص متعددة ثاوية في شخصية واحدة، فتراه تارة ينظر لضرورة الظن بعلم الكلام على شريحة العوام مع أنه ينتمي إلى المدرسة الأشعرية الكلامية وأحد وارثي التركة الجوينية (نسبة للجويني) ويروج لأدبياتها. تجده يؤلف في فضائح الباطنية ويفيل اتجاه الشيعة الإسماعيلية وفي المقابل تراه لا يكف عن تكثيف الدعاية للإشراق والعرفان ويعتنق جملة من التصورات المفاهيمية ذات المنحى الباطني. أحيانا تجده يتأرجح بين المعرفة القلبية والذوق والكشف والإلهام المتكئ على سوس الذات ورياضتها حتى تصل إلى درجة الفناء في الحقيقة الأزلية، وبين المعرفة العقلية وبين النظر والاستدلال من ناحية والحدس والإلهام من ناحية أخرى، حيناً يعلى وتيرة احتفائه بالعقل ويرى أنه: «يرى الأشياء كما هي فهو المعيار الذي لا يمكن أن يخطئ في التمييز بين الحق والباطل» (رسائل الغزالي مشكاة الأنوار ص47) بل يذهب إلى أكثر من ذلك إلى أن «الأوليات العقلية قوانين صادقة وثابتة في الذات والموضوع حتى أن الله ذاته لا يقدر أن يغير الحكم فيها» (تهافت الفلاسفة 203) ثم تجده بعد ذلك يقول: «يكفيك من منفعة العقل أن يهديك إلى صدق النبي ولفهمك موارد إشارته فأعزل العقل بعد ذلك عن التصرف ولازم الإتباع» (إحياء علوم الدين 1/37) هذا التقلب جعل فيلسوفا كالدكتور (محمد عابد الجابري) يعتبره في (تكوين العقل العربي ص281) بأنه المفكر الذي «تشخص في تجربته الروحية وإنتاجه الفكري هذا التصادم والتداخل» يقصد أنه تشعبت به سبل الفكر حتى مثّل كل الأنظمة المعرفية الثلاثة: البياني والبرهاني والعرفاني. ولا مراء أن لطبيعة الأجواء التي عايشها بصمتها التي لا تنكر حيث عاش في ظل عصر زاخر بألوان التوتر العلمي والتباينات الفكرانية التي بلغت آنئذ ذروة سنامها حتى إنه وصفها بأنها: «كبحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجى منه إلا الأقلون وكل فريق يزعم أنه الناجي» (المنقذ من الضلال 78).
الثاني: مستوى منهجي، والشك المنهجي يتجسد في وعي الوعي أو إعادة التفكير في التفكير حيث الشك هنا شك مؤقت لا تلبث الذكرة إلا وتظفر ببغيتها فهو إجراء مرحلي لغربلة الموروث التراكمي ومن ثم للاهتداء نحو الحقيقة وتأسيس المعرفة على أسس يقينية، فهو شك بنّاء يجعل من الشك وسيلة لغاية انطلاقا من أن المعرفة ممكنة وليس هو غاية مطلقة يجري التمحور حولها كما في الشك العدمي المذهبي؛ إنه ليس ضربا من الشك لمجرد الشك كما هو الحال في الشك السوف سطائي والنزعات اللا أدرية التي بلغت أوج المسار الشكي العبثي الجهلي والتي تؤْثر مراوحة الرأي على الركون نحو أي حكم من الأحكام. هذا الاتجاه الريبي البيروني الذي يعلق الأحكام هو في حقيقته متناقض إذ هو يقرر أن المعرفة الموضوعية غير ممكنة مع أن هذا الحكم -لو تأملنا- هو بحد ذاته معرفة!، وكان المفترض انطلاقا من أصولهم عدم تقرير عدمية المعرفة لئلا يسقطوا كما هو الحال في فخ التناقض الذي هربوا منه ابتداء!. هذا المنهج يطرد القاعدة حيث يجعل كل شيء موضعا للشك لكنه لا يشك في شكه!. إن الشك المذهبي ليس له ثمة أدنى مكان في المعرفة الإسلامية لأنه يقوض أسس المعرفة ويؤسس لانهيار القيم فهو بعكس الشك المنهجي أي الشك من أجل اليقين لا من أجل الشك وذلك بحسبه أداة من أدوات البحث عن الحقيقة وهو ما يقصده أبو حامد بقوله: «الشكوك هي الموصلة إلى الحق فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى» (ميزان العمل ص153) هنا يؤوب الغزالي قافلا إلى نقطة الصفر فيشتغل أعلى ما بوسعه للتحرر من منظومة القبليات وعدم إبلاء الاعتبار للمسبقات، يقول في هذا الصدد: «جانب الالتفات إلى المذاهب واطلب الحق بطريق النظر (يقصد شُك ثم استدل) لتكون صاحب مذهب ولا تكن في صورة أعمى تقلد قائدا يرشدك إلى الطريق وحولك ألف مثل قائدك ينادون عليه بأنه أهلكك وأضلك عن سواء السبيل وستعلم في عاقبة أمرك ظلم قائدك فلا خلاص إلا في الاستقلال» (ميزان العمل 409) وهذا الشك هو المقصود عند الإيماءة إلى ماهية أول واجب على المكلف وهل هو (النظر) أو (القصد إلى النظر) وهما لدى ثلة من الأشعرية، أو (الشك) وهو مشهور عن أبي هاشم الجبائي ذي المسلك الاعتزالي.
الشك المنهجي ليس قيمة عرضية طارئة بقدر ما هو شرط محوري لازب فيما سوى المفردات التي تفرض ذاتها حيث هي مركوزة ضرورة داخل الوعي وليس بمقدوره تجاهلها. إنه مطلب حيوي إذ بواسطته تتوقد الذاكرة فتقذف حاملها للتفكير خارج الصندوق في جداول رقراقة يرتسم على جبينها لوحة من التساؤلات فتتحامى البنيةُ الذهنية المتلبسة بها الوقوعَ في أسر الأنماط الاستاتيكية أو الانحباس في القوقعة؛ بيد أن ثمة سؤال يطرح نفسه: هل لابد من المرور بتفاصيل التجربة الغزالية حتى بلوغ اليقين؟! والحقيقة أن هذا تعسف حتى أبو حامد رحمه الله وصف ما أصابه بأنه ضرب مرضي فهو أجهد وعيه وكلفه أعباء إضافية كان له مندوحة عنها، وقد قدح زناد وعيه مرارا علّه يعثر على خيط واهن يعتقه من مأزقه الذي لا يُجتنى منه إلا إرهاق العقل على نحو لا يؤول إلا إلى تراجع الأداء النفسي وانكساف الوضع الصحي على نحو عام ووهن القدرة على التعاطي مع ضرورات الوجود الفيزيائي كما هو حال تلك التجربة التي كررها أبو حامد على مسامعنا آنفا عندما حمَلناه على البوح في صدر تلك القراءة.
Abdalla_2015@hotmail.com