تحبه.. ... تتمنى أن تنتزع وشاح الصمت الذي أنِفته انتزاعا، تحاول عمل كل شيء تظن أنه يسعده، تتقرب إليه بالسؤال عن أي شيء، لكنه يقضي على كل محاولاتها بنظرة أو كلمة واحدة فقط.
تحلم وتحلم بحياة سعيدة هانئة، تصغي بقلبها لعبارات الحب والغزل التي لم تُقل بعد، تنوي أن تجعل بينها وبين حياتها السابقة، سدا منيعا، وتنفخ فيه ثم تفرغ عليه قطرا، فإذا به استطاع له نقبا.
زوج يعيش بمعزل عن الحياة الأسرية، يأتزر بإزار الوقار أمامها، وإذا خرج من البيت وقابل الأصدقاء، انفرجت قسمات وجهه، وانحلت عقدة اللسان والحاجبين، لكأنما كان في قارورة وخرج كالمارد المتمرد، والمسكينة تتمنى كلمة.. أي كلمة، تروي بها ظمأ أنثويا ملحا، طامحا لحياة زوجية سعيدة.
ذات يوم، طلبت الخروج لنزهة، أومأ برأسه، أن، نعم.
خرج ليجهّز السيارة، أشعل سيجارته وبدأ يمصها بنهم شديد وكأنما هناك أمر ما أهمه، وأثقل عليه، كل ذلك لأجل اصطحابه إياها.
أغلقت باب المنزل تقدمت تحمل طفلها، نحو باب السيارة الأمامي، جلست ووضعت الطفل على المرتبة التي تتوسط المقعدين، فقط لترى أي تعبير سعيد على ملامح وجهه، بدأ الطفل يضحك ويمسك بملابس أبيه التفتَ إليه وجعل يلاطفه ويبتسم له, بدأ قلبها يرقص فرحا لأنه ابتسم، وضعت يدها على ظهر الطفل علّ يدها تلامس يد والده. كانت سعيدة بأن تلتصق أسرتها الصغيرة بهذا الشكل، الأب والأم ويتوسطهما الطفل، وكأنه مادة موصلة لمشاعرها تجاه الطرف الآخر.
تتلمس احتياجاته دون أن يتلفظ بها، تبادر إلى فتح علبة العصير وتقدمها له، وإذا شعرت بأنه انتهى منها تأخذها منه، تعرض عليه الماء بين فترة وأخرى، ظنا منها بأن هذا هو حسن التبعّل، وظنا منها بأنها ستكسب وده واهتمامه، لكن دون جدوى.
كم وكم تمنت - لفرط شوقها - لو أن الزمن يجري ويلهث كي تصل بأسرع وقت لعش الزوجية، وحينما وصلت،. فلا الأحلام هي الأحلام، ولا الآمال هي الآمال وإذا بها تنتظر وهما وسرابا كانت تحسبه ماء عذبا زلالا.
عندها.. تمنت لو كان الزمن مشلولا كسيحا، بل ليته جثا ولم ينهض.
دخلت بيت الزوجية وأحلامها الكثيرة متقدة، فما لبثت أن خمدت جذوتها وكأنما انهال عليها التراب فجأة، جرّاء صمته القاتل، الذي تشعر معه بانتمائها لعالم الصم والبكم، وتخشى أن تنسى الكلام، صيّر قلبها مرسى للطيور الكسيرة الجناح.
بدأت تلوذ إلى متراس الخيال، لتتقي به فجيعة الواقع. بعد أن كانت تحلم بليالي الأنس والسمر باتت تقنعها ابتسامة منه، وتجعلها طوال الليل تناجي القمر.
تستكين لتلك الحياة الرتيبة المملة، ثم ما تلبث أن تأرن, ترنو لعالم رومانسي جميل.
تخشى أن يبيّت لها القدر مفاجآت، غير الصمت المطبق. لكنها، بعد أحلامها بالينابيع ، إذ بدأت تجف واحدا تلو الآخر تعيش صدمة الظمأ، حتى الزهور التي نمت بمحاذاة الينابيع، اعتراها اليبس، فإذا هي ببقعة من الارض, يباب، لا حياة فيها، عندها... تذكرت الآية « ألم تكن أرض الله واسعة «.
وقفت وحيدة على شرفة الأمس.... ترى اليوم وكأنها لم تغادر الأمس.... تعود حيث كانت.. حيث فجر يجيء وفجر يودع..... لم يترك لها شيء... سوى بعض حلم... تناثر في فجرها البعيد.. أمسكت قلمها وبدأت تذرف كلماتها فكتبت : أيا عقارب الساعة عودي لألحق قطاري الذي قد فات أو قد تاه في صحراء جدبي، أو لعل الفجر حين نصحو.. يتغنى بقصائد الآتين من دنيا الرقاد... يا حلما رفرف بجناحيه يضحكني.. قضيت العمر لاهثة خلف السراب.. طويت من الأيام عمرا شاكيا..
ليتني يا ليل، ما شهدت مولد الغادين والآتين أو ليتني صامتة كالجدار الأخرس.
ذهبتْ.. وكأنها زائرة... بلون الغروب.. تمتد على ساعد النهار.. تلاعب الأوتار... تعزف لحن خلود الأماني في صحوة الحلم... تهزج للحزن تراتيل البكاء.... تمنح الحزن من كل الدروب... فتصبها في أوردة القلب... وشرايين الجسد.