تأتي البيناليات الفنية وأسواق الفن ومهرجاناته في أول قائمة الفعاليات التي تنهض بالفنون اليوم، وتجعل من معاصرة الفنون قيمة موازية للتاريخ الفني الطويل، ليس فقط لشرط المواكبة الذي تفترضه مثل هذه الفعاليات في القطعة المقدمة، وإنما أيضا ليأتي الواقع الخلاق للتقديم والتجربة الحية للتلقي المحكوم بزمن ينتهي, كأسباب جذب مغرية حيث السعي وراء قطعة فنية لا تنتظرنا في المكان تعد تجربة نفسية غنية بحد ذاتها. فما إن تصل القطعة الفنية إلى متحف أو تأخذ طريقها إلى الإنترنت حتى تأخذ وضعية الانتظار لمن يأتيها.. في تلك الفعاليات القطعة لن تنتظر، وما لم تذهب إليها سريعا ستذهب عنك.. هذا التحريك للقاعدة الزمنية في تلقي الفن يمثل دهشة من النوع النسغي الذي لا يمكن إدراكه إلا لمن عايش هذه التجربة.
حين نقول إن من قدر اللقالق بحثها عن السمك, وإن أثمن الفنون تلك المتجلية منها.. التي لا تلهث وراء من يرضى عنها فيلتقطها.. بالضرورة نلمح إلى بعض تلك البيئات المكثفة وإلى تفاعلنا معها نحن العرب.
تزدهر في مثل هذه الأجواء التجارة الفنية، وهي حدث بإمكانه تنميط الفنان؛ وبالتالي تنمط الفن؛ إذ من غير العادي قدرتها على تسييد أسماء عن أخرى بشكل يقود آخرين إلى مساحات غير حرة بالضرورة، وإنما حريتها محكومة بالمسافة قربا وبُعدا من تلك الأسماء، هذا ليس أسوأ ما يمكن حدوثه؛ فالأسوأ من وجهة نظري هو ظهور نوع جديد من الفنانين لا يشغلهم سؤال الفن كما يشغلهم سؤال التجارة.. وبدلا من أن نرى الفنانين مشغولين باجتماعهم وبتحقيق حوار غزير وحي حول الفن ومفاهيمه وفلسفاته نجدهم وفي مثل تلك الأجواء العبقة بالحضور الفني مشغولين تماما لهاثا وتحدثا وانتباها بأسماء المقتنين والأثرياء والقيمين الفنيين ونشاطهم وتبادل المعلومات عنهم، أي بالتجارة البحتة التي باتت محورا الآن وحدا يأتي فيه الكلام عن الفن - حين يأتي - معلبا وجاهزا ومرتبا قبل حين, من أجل تقديم السلعة وإتمام العملية التجارية لا أكثر. روح الفن مفقودة هناك كليا.. وإن كان لا بد فإن ما يحدث عند تأمله من الأعلى يحقق عملا فنيا جنونيا معاصرا يريد أن يبتعد هازئا عن الفن الحقيقي الشغوف.
إن الجهود المبذولة في تلك الفعاليات والحركة الفنية المتاحة هي من الروعة أن تأخذ التاريخ, لا فنانينا العرب فقط, لمرحلة من التجلي المترفعة والبانية والشغوفة حقا بكل هذا الإنتاج.. ذلك بالأخذ في الاعتبار العملية التجارية التي تطورت أيضا فصار لها رعا تها المتخصصون الذين من المفترض بوظيفتهم أخذهم هذا العبء عن كاهل الفنان ليتفرغ هو للبحث في مساحته الإبداعية ومساحات مجايلينه. وإن كان للقيمين الفنيين من قيمة فهو الحرية الفنية التي من المفترض أنهم يقدمونها للفنان ليشغله سؤال الفن لا السؤال عن المقتنين.
إن الفن الذي تقوده التجارة يمكن تخمين مساحاته الإبداعية بشكل ممل.. ذلك أن الضرورات التي يقدمها القيمون لعدد كبير من الفنانين تحدد المساحة الإبداعية بصرامة فجة.. كإجبار الفنانين مثلا على إنتاج اللوحات بدل أعمال التركيب حيث اللوحات نوع من الفن يسهل بيعه. هذه إشارة من ضمن إشارات من الأجدى أن تمثل رعبا للفنانين أنفسهم حيث انحسار الفن يعني بالضرورة انهيار الفرص للشغف الحي والإبداع الخلاق وممارساته؛ وبالتالي انهيار البيئة الحقيقية للفنان.