... ممّا يزيد الباعثَ على الشكّ في صحّة صورة أبي نواس المشتهرة المنقولة إلينا بعضُ ملامح متعلّقة بوجهٍ آخر نقيض لما نقرأ عادةً حول شخصيّته وثقافته. منها:
|
1 - وَصْفُهُ في بعض كُتب التراث بخصالٍ حميدة، وأنه: «أكثر الناس حياءً»، وكان راوية علاّمة؟! وهل يُعقل أن يكون بتلك الصفات وهو ماجن سكّير متهتّك؟
|
2 - زهديّاته، التي زُعم أنها توبة متأخرة. وما هناك من تواريخ مؤكّدة تحقّق متى قالها، على كلّ حال. ولا ثقة بالحكايات المصاحبة، فهي تراث شعبيّ مألوف، لا دليل عليه، وإنما يتّخذ للوعظ والتحذير من العواقب.
|
3 - يوصف بأنه أعلم الناس وأكثرهم معرفةً بالأدب. وكان كذلك متّصلاً بحياة عصره الفكريّة، مطّلعًا على آراء الفلاسفة والمتكلّمين، متبحّرًا في العلوم اللغويّة والإسلاميّة؛ حتى قال الجاحظ- مع ما يُفترض فيه من أنه خصيمه في الشعوبيّة والموقف من المعتزلة-: «ما رأيت أحدًا أعلم باللغة من أبي نواس، وأفصح لهجةً، مع مجانبة الاستكراه»(1). وقيل: «كان أقلّ ما في أبي نواس قول الشِّعر، وكان فحلاً، راوية، عالمًا.»(2) ويصفه (ابن قتيبة)(3) بأنه «كان متفنّنًا في العِلم، قد ضَرَب في كلّ نوعٍ منه بنصيب، ونَظَر مع ذلك في عِلم النجوم». وذهب يستشهد من شِعره على عِلمه بالنجوم والفلَك. وكذا أشار إلى نظره في عِلم الطبائع، أو الفيزياء. مستدلاُّ بمثل بيته:
|
سَخُنْتَ مِن شِدَّةِ البُرودَةِ حَتَّى |
صِرتَ عِندي كَأَنَّكَ النارُ!(4) |
كما خالف ابنُ قتيبة فيه من لَحّنوه نحوًا، أو ضعّفوه لغةً، واحتجّ له على ما عيب فيه بكلام العرب وأساليبها. ممّا يدلّ على أن أبا نواس لم يكن يقع في مخالفات لغويّة عن جهل، بل عن سعة علمٍ بالعربيّة، وأخذًا للشِّعر بما ينبغي له من لغةٍ منزاحة عن مألوف القول(5).
|
فهل هذه إلاّ شخصيّة جادّة كلّ الجِدّ، لا عابثة ولا لاهية؟!
|
4 - من أساتذة أبي نواس: أبو زيد الأنصاري (-215هـ)، العربيّ اليمنيّ الثقة، وأبوعُبيدة معمر بن المثنى (-209هـ)، مولى تيم، البصريّ العالم، الإباضيّ، المتّهم بالشعوبيّة من الطرف المضادّ، (قال عنه الجاحظ: «لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه»)، وأزهر السمان (-203هـ)، الباهليّ بالولاء، بصريٌّ، عالمٌ بالحديث، كان يتردّد على المنصور وله معه أخبار، ويحيى بن سعيد القطّان، العربيّ التميميّ (-198هـ)، بصريٌّ، من حُفّاظ الحديث، ثقةٌ حُجّة، من أقران مالك وشُعْبة، كان يُفتي بقول أبي حنيفة، (قال أحمد بن حنبل: «ما رأيتُ بعيني مثل يحيى القطان»)، ومنهم خَلَف الأحمر (- نحو180هـ)، بصريٌّ، فرغانيٌّ، من الموالي، زعم أبو عُبيدة أنه أستاذ الأصمعيّ ومعلِّم أهل البصرة، راوية مشهور، متّهم بوضع الشِّعر على العرب، وكان شاعرًا، له ديوان. ولأبي نواس تلاميذ رووا عنه من العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث، منهم: محمّد بن إبراهيم- لعلّه (ابن طباطبا، -199هـ) من أئمة الزيديّة، ثائر على العبّاسيّين، وعُبيدالله بن محمّد العبسي (كذا ورد لقبه، والصواب: العيشي، ويكنى: ابن عائشة؛ لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيدالله التيمي، (-228هـ)، عالمٌ بالحديث والسِّيَر، أديب، من أهل البصرة) (6)، ومحمّد بن جعفر غُنْدَر (-193)، عالمٌ بالحديث، متعبّد من أهل البصرة، وكان أصحّ الناس كتابة للحديث(7)، وعمرو بن بحر الجاحظ (-255هـ)، والإمام محمّد بن إدريس الشافعي (-204هـ)، وجماعة سواهم(8). أفيكون أستاذٌ تلاميذه أمثال هؤلاء على تلك الصورة الهزليّة التي صُوّر بها؟! تلك الصورة النمطيّة التي امتدّت من عصره إلى العصر الحديث(9)، ونفخت فيها المخيّلة الشعبيّة والملاهي القصصيّة ما نَفختا، حتى بات التوثّق من بعض نصوصها وأحاديثها أمرًا في غاية الصعوبة، غير أن مناقضتها لشواهد راجحة عن شخصيّة الرجل، ولشهادات متواترة فيه من معاصريه، تبعث على التوقّف عن التسليم بمرويّاتها الدارجة على عواهنها، إنْ لم تبعث على الشكّ في صحّة بعضها والميل إلى أنه من وضع الوضّاعين وانتحال المنتحلين، ممّن اتّخذوا أحاديث الفكاهة تجارة ورواية الطرائف وأخبار الظرفاء حرفة، يؤلّفون فيها المجلّدات الطوال، وربما كانت لهم من وراء تلك الأقاصيص، المطعمّة بالقصائد والمقطوعات الشعريّة- التي قد لا تخلو نفسُها من تزيّدٍ وكذبٍ- من مآرب أخرى، كتلك المآرب السياسيّة والاجتماعيّة التي رأيناها تكتنف ما كان يُنشر حول أبي نواس. ومن الحقّ هنا ما ذهب إليه (رفيق العظم)، إذ قال في هذا السياق: «أعتقد أن ما نُسب إلى أولئك الشعراء، كأبي نواس وبشّار ومَن في طبقتهما، محلّ شكٍّ، ولاسيما إذا صحّ أن شِعر أبي نواس لم يُجمع في كتاب (ديوان) على حِدَة في حياته، وإنما جمعه رواة القصص وأخبار شعراء المجون، وتناولوه بعد وفاته بزمنٍ قريبٍ أو بعيد، ومح لّ أولئك الرواة من الثقة أو عدمها، لا يحتاج إلى تعريف.»(10)
|
5 - شَهِد لأبي نواس كذلك كبار أهل العربيّة، كالمبرّد (محمّد بن يزيد، -286هـ، الأزديّ، البصريّ مولدًا البغداديّ وفاة، إمام العربيّة في بغداد في زمنه)، وأبي عمرو الشيبانيّ (إسحاق بن مرار، -206هـ، مولى شيبان، من رمادة الكوفة، سكن بغداد ومات فيها، أخذ عنه أحمد بن حنبل)، وابن الأعرابيّ (محمّد بن زياد، -231هـ، من الموالي، كوفيّ، راوية، ناسب، علاّمة، حافظ، لغويّ، ربيب المفضّل الضبيّ)، وشهادة هذا لها معنى إضافيّ؛ لأنه من شانئي أبي نواس وعائبي شِعره، وأبي عُبيدة (سبق التعريف به)، وابن خالويه (الحسين بن أحمد، -370هـ، من همذان، زار اليمن وأقام بذمار، ثم استوطن حَلَب، له مواقفه مع المتنبّي). (11)
|
والنتيجة: أن أبا نواس شاعرٌ ظريف، خفيف الظلّ، فكاهيّ، هزليّ، ساخر، حتى في حكمته وزهده(12):
|
- أرى كلّ حيّ هالكًا وابن هالك |
وذا حسبٍ في الهالكين عريقِ! |
- إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت |
لهُ عن عدوٍّ في ثياب صديقِ! |
- ومن أسوا وأقبح من لبيبٍ |
يُرى متطرِّبًا في مثل سنّي! |
غير أن صورته إنما لحقتها المبالغة في التشويه التاريخيّ المتعمّد لأسباب سياسيّة واجتماعيّة. كما أسهمتْ قراءات شِعره السطحيّة في ذلك التشويه. فيما يتبدّى لمستقرئ شِعره أنه كان يسعى في معظمه إلى تعرية التناقض القيميّ في عصره، وما ساد فيه من سلوك الناس مسالك الرياء، وفرض الالتزام والاحتشام على فريق دون فريق.
|
(1) انظر: ابن منظور، -711هـ= 1311م، (1924)، أخبار أبي نواس، (مصر )، 6، 16، 53 - 54.
|
|
(3) (1982)، الشِّعر والشُّعراء، تح. أحمد محمّد شاكر (القاهرة، دار المعارف)، 2: 798.
|
|
(5) انظر: م.ن، 2: 818- 819.
|
(6) انظر: الزركلي، خيرالدين (-1976)، (1984)، الأعلام، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 4: 196.
|
|
(8) انظر: طه حسين، (1981)، حديث الأربعاء، (القاهرة: دار المعارف)، 44- 45، يننقل عن: الحافظ بن عساكر: تاريخ دمشق.
|
(9) حتى إن العقّاد في كتابه « أبو نواس الحسن بن هانئ»، وقد اتّخذ أبا نواس ميدانًا لتجاربه في النقد النفسيّ، ليردّد وصفه بالإباحيّ، وذي الشخصية المنحرفة، المولع بالشيطان، الخبيث، الماجن، مع ما يصفه به في المقابل من خصال الوفاء والكرم والنُّبل.
|
(10) نُشر مقاله في «السياسة» المصريّة، في 21 جمادى الآخرة سنة 1341هـ= 7 فبراير سنة 1923م، تعليقًا على ما كان ينشره إذ ذاك طه حسين عن أبي نواس. وقد نُشر المقال في كتاب طه حسين، حديث الأربعاء، 2: 58-62، والإشارة هنا إلى ما ورد في: ص61.
|
(11) ينظر: ابن منظور، أخبار أبي نواس، 2، 58، 57، والمقدسي، أنيس، (1979)، أمراء الشِّعر العربيّ في العصر العبّاسي، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 111. (والتعريف بهؤلاء الأعلام عن: الزركلي، الأعلام).
|
(12) (1982)، ديوان أبي نواس، تح. أحمد عبد المجيد الغزالي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 621، 617. والأخير منسوب لأبي العتاهيّة أيضًا.
|
http://khayma.com/faify |
|