فلا حياد مع الإبداع.. ولكنّ من النادر أن تجد أحداً من المشتغلين على مقاربة الإبداع أو متابعته يمتلك القدرة على الاعتراف بأنه غير محايد. إذ لا يمكن أن يكون محايداً طالما أنّ الحساسية الإبداعية لديه تجعله ينحاز لهذا الإبداع دون ذاك، أو لمبدع دون آخر..
قد يتصور البعض أن الانحياز واردٌ وطبيعيّ ومشروع في كل المجالات، وليس في الإبداع وحسب، ولكنّ ذلك -في تصوّري- يعتبر خللاً ونقصاً ويفقد صاحبه المصداقية إن افتضح أمر انحيازه.. فالحياد مطلوبٌ من كلّ صاحب رأي، إلاّ عندما يكون الرأي المطلوب عن شيء إبداعيّ!
أو أن يكون الرأيُ مطلوباً من مبدع!
لنأخذ مثلاً (السياسة) أو (التاريخ).. وأذكر على سبيل المثال، أنني سئلتُ في ذات استطلاع عن أهم كتاب صدر في عام من الأعوام فكان جوابي: كتاب (انفجار المشرق العربي) للدكتور جورج قرم، الصادر عن دار الفارابي في طبعته العربية ويتناول الفترة من تأميم قناة السويس 1956 إلى ما بعد غزو العراق 2006، ووصفته بأنه (كتاب ضخم في تسعمائة صفحة ولا أزعم أن المؤلف كان حيادياً في طرحه، بل كان منحازاً لمواقف تتناقض في أكثرها مع ما أتبناه من مواقف(!) ولكن ذلك لا يمنعني من اعتبار الكتاب من أهم ما صدر العام المنصرم، تقديراً للجهد والدقة والشمولية والربط بين الأحداث بطريقة سردية عالية التقنية وأسلوب أكاديمي يعنى بالهوامش والإحالات بما يؤهل هذا الكتاب أن يكون مرجعاً توثيقياً هاماً لتأريخ واستعراض فترةٍ امتدت لخمسين سنة كانت سلسلة من الانفجارات في مشرقنا)..
ففي مثل هذه الحالة الفكرية، المعنية بالتاريخ أو السياسة أو حتى العلوم جميعها لا يمكن القبول بالانحياز (بخاصةٍ أن انحياز المؤلف في ذلك الكتاب كان خطيراً جداً) ومع ذلك قبلتُ به واعتبرته أهمّ ما صدر في ذلك العام، لماذا؟!
الجواب قد يبدو غريباً: لأنني نظرتُ إلى العمل من زاوية (إبداعية) فأعجبني انحيازه وطريقته في سرد أسباب وتعليلات انحيازه، فكنتُ منحازاً له أكثر من انحيازه هو لاتجاهاتٍ تخالف مواقفي جملة وتفصيلاً!
وعلى ذلك أقول، من دون ادعاءاتٍ بالحياد أو النأي عن الانحياز: إن الإبداع إذا داخَلَ أيّ رأيٍ أفسدَ حيادَه وحَكَم عليه بالانحياز..!
أما إن شئت أن أضرب أمثلة عن آراء قيلت حول أعمال (إبداعية) فسأبدأ بنفسي وأختم بها، وأقول: جميع ما كتبته (إيجاباً، فليس من عادتي الكتابة سلباً) عن إبداعات المبدعين، كانت منحازة أقصى انحياز بحكم المحبة أو الصداقة أو حتى التعاطف بعيداً كل البعد عن الحيادية في التقييم.. ولكنّ ذلك لا يعني أبداً أنني كنتُ أمدح أو أبالغ في وصف جماليات تلك الإبداعات وأولئك المبدعين، بقدر ما يعني أنّ انحيازي ليس سرّاً أحاول إخفاءه أو تهمة يهمني إنكارها.. وإن كان البعض يتصوّر المسألة كذلك فجميلٌ أن نبدأ الشهر الكريم (رمضان) بمثل هذه الاعترافات، وقد بدأتُ بنفسي!
ولعلّ أخطر اعتراف يخصني (إبداعياً) هو أن أقول: حتى (شهر رمضان) لم يسلم من (الانحياز الإبداعيّ).. ففي العام الماضي، وفي مثل هذا الوقت، كنتُ في حالةٍ من السوداوية الذاتية، فانحزتُ إليها وكتبتُ قصيدة عنوانها (في غرّة رمضان) جمعت فيها كلَّ قاتمٍ وقاسٍ ومؤلمٍ لأصف الشهر الفضيل، فما كان ذلك إلاّ نتاج إحباطٍ شخصيّ جعلني أنحاز لشؤمٍ مظلمٍ وأسقطه على كلّ فأل ونور.. حتى أنني اعتمدتُ نشر تلك القصيدة في صحفٍ غير صحفنا المحلية، لأنني أعرف أنها لا تناسب الضوابط المانعة - عن حق - لمثل ذلك التجديف الذي ورّطني به الإبداعُ.. فكنتُ الآن، بعد انقشاع الغمّة عن عينيّ وانفراج المآزق في طرقاتي أوّلَ الرافضين لقصيدتي تلك (فلن أضمّها إلى ديواني القادم)..
هل قلتُ إن بعض المحبين (المنحازين) إلى تجربتي الشعرية لم يرَ في تلك القصيدة إلاّ كلّ إبداعٍ أعجبه، فانحاز إليه غير منتبهٍ لما يتضمنه من ضلالات..؟!
على كلّ حالٍ: أستغفر الله وأتوب إليه.
ffnff69@hotmail.com