لم تكن الدورة المكثفة التي عقدتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في (المملكة المتحدة-بريطانيا) لأعضاء هيئة التدريس في شهر يوليو من هذا العام 2010م مجرد دورة عادية الهدف منها زيادة الرصيد اللغوي من اللغة الأولى على مستوى العالم،
|
بل كانت أكبر من ذلك بكثير، لقد مثلت مرحلة مهمة في تاريخ الجامعة ونقلة نوعية رائدة تحسب لإدارة الجامعة وعمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس تحديدا، وقد كنتُ محظوظا حين نلتُ شرف المشاركة في هذه الدورة المتميزة التي شارك فيها قرابة خمسة وعشرين أستاذاً من أبرز أساتذة الجامعة يُمثِّلون مختلف التخصصات، توزعوا بين مدينتين من أشهر وأهم المدن البريطانية التي تحتل جامعاتها المراتب الأولى في التصنيفات العالمية، وهما مدينتا (أكسفورد) و(كامبردج), وقد كان لي شرف الانضمام إلى مجموعة (كامبردج) التي قضينا بين ربوعها أياماً رائعة وشاقة في الوقت نفسه.
|
لقد كانت (كامبردج) كغيرها من المدن البريطانية تتمتع بجو تعجز الكلمات عن وصف جماله، ولا أجد حينها بيتاً يتبادر إلى ذهني أسرع وأدق من بيت شاعرنا العربي أبي تمام حين قال:
|
مَطَرٌ يَذُوبُ الصَّحوُ مِنهُ وَبَعدَهُ |
صَحوٌ يَكَادُ مِن النَّضَارَةِ يُمطِرُ |
أما الخضرة التي زاحمت المنازل وغصت بها الشوارع فلا أجد أصدق من وصف أحد الزملاء حين ذكر أن ما نراه الآن هو أنموذج حي على ما يسمى ب(استوطان الغابات)!
|
إلا أنَّ ما يميز هذه المدينة الرائعة أنها استطاعت أن تجمع العديد من الميزات التي جعلتها بحق مدينة استثنائية لافتة، أبرزها ذلك الهدوء الذي يلف جوانبها والسكون الرائق الذي يحيط بأحيائها ومبانيها ليصل إلى أسواقها ومحلاتها، ولا عجب في ذلك؛ فهي أقرب إلى أن تكون قرية ريفية بعيدة عن صخب المدينة وأضوائها وزحمة طرقها وضوضاء عرباتها.
|
إن هذا الهدوء وتلك الخضرة وذلك الجو كل تلك الخصائص تجعل المرء في حالة صفاء ذهني وتأمل شعوري قلما يحصل عليه الإنسان في مكان آخر، بالإضافة إلى ذلك التراث وتلك العراقة التي تفوح منها منازلها ومبانيها وكل حي من أحيائها.
|
لقد كانت هذه الدورة التدريبية التي استمرت شهراً كاملاً فرصة مُثلى لأساتذة الجامعة لزيارة هذه المدينة الجميلة والانفتاح العلمي والحضاري على الآخر، كما كانت فرصة للتعرف على المنجزات العلمية والثقافية والاطلاع على كثير من الأفكار والعادات والتقاليد من خلال الزيارات والحوارات مع العديد من أفراد المجتمع هناك، والأهم من هذا وذاك الاستفادة من الجانب المضيء من ثقافة المجتمع التي تظهر في كثير من المواقف والمشاهدات أبرزها الالتزام التام بالنظام والتقيد العجيب بالتعليمات، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين أو مصادرة آرائهم أو فرض الوصاية عليهم، وكذلك الاحترام المتبادل الذي يلقاه الزائر من أبناء هذه المدينة الجميلة.
|
لقد كنا نسير في طرقات (كامبردج) متأملين عراقتها وضخامة مبانيها، ومستمتعين بأجوائها الرائعة وخضرتها البديعة، لكننا كنا نشعر في الوقت نفسه بغربة شديدة، وحينها لم يكن يحضرني سوى بيتي المتنبي حين أنشد:
|
مَغَاني الشعبِ طِيباً في المغَاني |
بِمنزلةِ الرَّبيعِ من الزَّمَانِ |
وَلكنَّ الفَتَى العَربيَّ فِيهَا |
غَريبُ الوَجهِ واليدِ واللِّسَانِ |
فبالإضافة إلى تلك الغربة التي أحسها أبو الطيب فقد كنا نحس بغربة أخرى من نوع آخر، غربة جسد وروح، وغربة ثقافة وحضارة، وغربة لغة وتعليم، وغربة نظام والتزام، وهذه الأخيرة هي التي أود الحديث عنها هنا لأن غيرها واضح جلي.
|
لقد لاحظنا خلال تلك الأيام التي قضيناها هناك صوراً عديدة من الالتزام الدقيق بالأنظمة والتعليمات، وشاهدنا الكثير من المواقف التي تتجلى فيها حرص أولئك الناس على السير وفق القوانين التي يعرفها الصغير قبل الكبير، فلا يمكن أن ترى دراجة تسير دون أن يكون راكبها مرتدياً خوذته الواقية ولباسه المخصص، ولا يمكن أن يقطع الماشي الطريق دون أن تضيء له الإشارة التي تسمح له بذلك، ولا يمكن أن تشاهد في (الباص) شاباً أو فتاة قد جلست على مقعد مخصص لكبار السن، والأعجب من هذا وذاك أننا لم نستمع إلى بوق واحدة من العربات التي تتمتع بسهولة الحركة المرورية على الرغم من ضيق الطرق ووجود (الباصات) الضخمة التي تخدم أغلب سكان هذه المدينة كما هو الحال مع غيرها من المدن البريطانية الأخرى.
|
أما ما يتصل بالجانب العلمي والأكاديمي فلم أستطع تفويت فرصة زيارة جامعة (كامبردج) تلك الجامعة الضخمة التي تحتل المركز الثاني في أحد التصنيفات العالمية، هذا على الرغم من قِدَم مبانيها بشكل واضح، إلا أن ما تقدمه هذه الجامعة بلغ من الضخامة والكفاءة والفعالية ما استحقت معه أن تصل إلى هذه المرتبة المتقدمة في التصنيف، وقد تهيأت لي الفرصة لزيارة مكتبة هذه الجامعة العريقة، فوجدت سهولة التنظيم وبشاشة الاستقبال وجمال الترحيب، أما ما لفت نظري هنا فهو ذلك الهدوء العجيب الذي يخيم على المكتبة حتى لتكاد تجزم أنه ليس فيها أحد، وما ذاك إلا لأنهم يقدسون النظام، ويعرفون تمام المعرفة أن الحديث في هذا المكان تحديداً غير مسموح به إطلاقاً، ولسوء الحظ فقد رن هاتفي أثناء تجولي في أحد أقسام المكتبة فما هي إلا ثوان وإذا بتلك العجوز المسنة تنظر إلي من تحت نظارتها مستنكرة وهي واقفة أمامي مُشيرةً إلى لوحة كتب فيها بأنه يمنع الحديث عبر الهاتف في هذا المكان، وأنه يجب وضعه على الصامت.
|
لقد كانت هذه الدورة التي هيأتها جامعة الإمام لأعضاء هيئة التدريس مهمة جدا، فعلى الرغم من المشاق التي واجهناها هناك ابتداء من البحث عن سكن مناسب ومروراً بالغلاء المعيشي المرتفع وانتهاء بصعوبة التواصل اللغوي في بداية الأمر إلا أنها كانت مفيدةً جداً للاطلاع والتعرف على ثقافة الآخر، والمرحلة التي وصل إليها على مستوى المنجز العلمي والحضاري.
|
وقد توج مدير الجامعة معالي الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل هذه الدورة الرائعة بزيارة أبوية للأعضاء في (أكسفورد) التي توجهنا إليها للالتقاء به مع زملائنا هناك، وقد أبدى المدير سعادته وثقته بالنتائج المنتظرة من هذه الدورة التي تهدف إلى رفع مستوى أعضاء هيئة التدريس العلمي والأكاديمي والأداء المتعلق بالعملية التعليمية والتعرف على ما لدى الآخرين من جهود ومعارف.
|
إن أمثال هذه الدورات التي تقيمها الجامعة لأعضائها في غاية الأهمية، فهي أولا تمثل دعوة لهم للمشاركة الفاعلة في المؤتمرات الدولية والمحافل العالمية، وتتيح لهم ثانيا الاطلاع على الكتب والبحوث الأكاديمية في التخصصات العلمية والارتقاء بالقدرات في مجالي البحث والتعليم، وهي بشكل أو بآخر تكرس الصورة الذهنية الإيجابية في مجال تقبل الآخر والانفتاح المنضبط على الحضارات والثقافات المختلفة، وهذا بلا شك من أهم الوظائف التي تقوم بها الجامعة لأساتذتها.
|
على كل حال فقد آتت هذه الدورة ثمارها وما زالت، وذلك الشهر الاستثنائي الذي قضاه الزملاء لا يمكن أن يغيب عن الذاكرة، وعلى الرغم من هذا فقد أحس الكل بلوعة الشوق وحرارة الاشتياق إلى الأهل والوطن، ففي طريق العودة كنت أتحدث في الطائرة مع أحد الزملاء عن المدة التي بقيت للوصول وأسأله عنها في كل مرة على الرغم من معرفتي بالمدة، فلما تعجب من ذلك أنشدتُ له بيتي المتنبي حين قال:
|
نحنُ أدرى وقَد سَألنا بنجدٍ |
أَطَويلٌ طَريقُهُ أم يَطُولُ |
وَكَثيرٌ مِن السُّؤالِ اشتياقٌ |
وَكثيرٌ مِن رَدِّهِ تَعليلُ |
|