ولم يشفع لقصيدة «النّمو المطّرد» ما يحمله عنوانها من زخم التّفاؤل، فيتناولها بقوله: «(النمو المطرد) وجه آخر من واقع وجوده الذي قسى عليه لأنه هو بعض وجوده وجوده..». دعونا نرى هل هذه الكلمات في محلّها؟ ها هو ينقل من القصيدة قولي:
|
«إني تراثي الملامح |
عن كل جوهرة أنافح |
لكنني متوثب أبغي الجديد بهمة |
وبكل مرحلة مصالح» |
فلا ينقل النّص كما هو، بل يسقط جملة: «فلكلّ عصر فتحه» من بعد كلمة «بهمّة» فيضطرب المعنى. ثمّ يستمرّ فيقول: «ويخلص إلى الحقيقة الغائبة»:
|
«وأعيش في شرك المشقة والأسى إن لم أكافح |
متحفز أبغي الجميل يقابل شهم الجوارح» |
ويعلّق بقوله: «همسة حب لشاعرنا كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.. نحن الذين نصنع وجودنا جمالاً أو قبحاً..»
|
ولا غرابة في هذا الفهم، إذا ما تخيّلنا أنّ هذا الجميل سيقابل شهم الجوارح وفي يده خنجرٌ مسموم. ما هذا أيّها النّاقد الماهر؟! لقد فهمت القصيدة فهمًا خاطئًا، ومسخت بعض معالمها، فخنقتها. وقلبت كلمة بقابلٍ (أي بغدٍ أو مستقبلٍ مشرق) في السّطر الأخير إلى يقابل، فانقلبت القصيدة بهذه الكلمة من لغة راقية إلى لغة أدنى من العاميّة بكثير. إنّني لا أنشد بهذه القصيدة إلاّ الوجود الجميل الّذي تنشده وينشده كلّ عاقل، سامحك الله. وما زلتُ أذكر إعجاب الأستاذ سعيد شوشة الثّبيتي بهذه القصيدة عندما قدّمتُها في برنامج «أوراق شاعر» قبل سنوات. وهو، رحمه لله، ممّن يعرف النّص الجميل من غيره، وما كان يسمح في برنامجه ذاك بما هزل من الشّعر.
|
ويقدم النّاقد لقصيدة «أمّة نائمة» بكلمات جميلة، ويستشهد بأبيات منها:
|
«ان نحن لم نسع لتحقيقها |
حافت بنا أو هامنا الوارمة |
وصارت الدنيا بلا منهج |
وأصبحت أهدافنا عائمه |
وأمة لم تسق أعداءها |
مما سقوها أمة نائمه» |
والأولى أن يضبط الهمزة في إن، وأن يجعل الهاء تاءً مربوطة في وارمه وعائمه ونائمه، وأن تكون «حافت» هي «حاقت»، و»أو هامنا» هي «أوهامنا» كلمة واحدة؛ كما هو في أصل القصيدة.
|
وينتقد عنوان قصيدة «الموت جزء من الحياة»، فقال: «هكذا يحسب ويرى.. ويرى غيره أن الموت موت. والحياة حياة». وعجبت له يقول هذا وهو يدعوني إلى التّفاؤل وتغيير النّظارة التي أنظر بها إلى الحياة؛ ثمّ يأتي إلى كلام هو غاية التّفاؤل فيهدّه بكلمة. العنوان لا ينفكّ عن القصيدة. وما دام الموت يقود من حياة إلى حياة أعظم فهو جزء منها، بشرط بيّنتُه لمن قرأ. وفي القرآن: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169) سورة آل عمران وإن كان ذلك في حال الشهداء. ويأخذ من القصيدة أولها فيخرج مشابًا بالشوائب المألوفة:
|
«لم يزل في المهد.. من يهدي عيني للحقيقة؟ |
أن لا أقوى على تبيين ما خطت يميني من وثيقة |
سوف آتيه بأخبار عن الشرق وأخبار عن المغرب |
لن أطيق الصبر والإفصاح عن تلك الدقيقة |
ربما أتيت يوماً قائلاً وبحلقي غصة |
أن هذي المدار ابني لهي المدار المحيقة» |
وكما هو مألوف أصبحت القصيدة كالبيت الخرب. تغيّرت عبارة «يهديه عنّي» إلى «يهدي عيني»، لتميل القصيدة إلى الغناء الشّعبيّ، وليظلّ إنهاك الجسد هو الأقرب إلى المعنى؛ و»في الوثيقة» إلى «من وثيقة»، و»من الشّرق» إلى «عن الشّرق»، و»من الغرب» إلى «عن المغرب»، و»ربّما آتيه» إلى «ربما أتيت»، و»الدار» في موضعين إلى «المدار». وأسقط مقطع: «وأهديه مفاتيح علومي، غير أنّي» من قبل عبارة «لن أطيق الصّبر»؛ فأصبح النّص مشوّها طاردًا لأعين القرّاء وألبابهم.
|
وجاء إلى عنوان قصيدة «نواميس في هجعة الفكر» فحوّره إلى «نواميس في هجعة فكره» ليتنامى مع سياق كلام كتبه، يريد به التّجديد في الطّرح، وإخلاء نفسه من مسؤولية مشاركة الشّاعر في هذا الفكر. وقد فعل ذلك من قبل مع قصيدة «وشم على كفن السّلام»، ونسي أن من القراء من سيظن أن العنوان المحوّر من عندي. ولو ظنّ قارئٌ ذلك، وله الحقّ، لقرأه عنوانًا ثقيلاً غير مستساغ. وسأسكت عن إيحاءات محتملة لهذا العنوان المحوّر محسنًا ظنّي بالنّاقد الكريم. وها هو يفرح بهذه القصيدة، وقد كره نظرتي المعقولة إلى الموت، ورغبتي في النّمو المطّرد من قبل. يقول بعد أن نقل منها:
|
«من هنا من منحنى الفقر أغني وأهني»:
|
«للمرة الأولى غنيت. وهنيت.. وفرحنا بك فهل تبقي عليها حتى ولو كانت أمنية؟».
|
|
«أتمنى أن أرى حراً يقول الحق ويسكت عني
|
أتمنى مرة العمر في العمر لو في من ألا في خاب ظني»
|
فيعتري هذا النّص ما اعترى غيره من خلل كجعل «أو يسكت» «ويسكت»، ليصبح المعنى مطموس المعالم؛ إذ كيف يقول ويسكت في آن. وإدخال كلمة «العمر» في غير محلها، وجعل «ألاقي» «ألا في»، وعدم ضبط الشّكل المُيسِّر لقراءته.
|
ويعلّق بقوله: «لماذا الخيبة.. هل كان صائباً وتمنيت صوابه.. أجمل من الخيبة أن تلقاه وقد طاب ظنك». إنّني لا أفهم ما يقول. وهو لم يفهم المعنى المراد، المبني على طبيعة الحياة الّتي نعيشها.
|
ويستمر في الاستشهاد: «غير أني مغرق بالحزن.. والحيف يوافيني وفي أحشائه من كل فن». فيقول: «تلك قضيتك.. ونظرتك ونظارتك التي أطمع أن تكون شفافة تمهد وتعبد الطريق الصعب.. ويعدك من جني يوحش إلى إنسان مستأنس كما تمنيت:
|
(كيف لا أصبح مثل الأنس في الشكل؟! وفي الأفعال جنّي)». ويزيد: «بعد أن تصحو من هجعة فكرك سترى نفسك إنساناً إنسانياً يعيش هموم أناسه وأنت كذلك».
|
النّاقد لم يكن في جوّ النّص ولا في سياقه؛ ولم يقرأه قراءة فهم، فجاء شرحه بعيدًا عن معناه. مُنحنى الفقر، أيّها الفاضل، موقعٌ جغرافيّ تأخذ جباله وأوديته شكل القوس في الطبيعة. وقفت عليه وقلتُ ما قلتُ، وأنا أدرى به. ولم أتمنّ أن أكون إنسيًّا بعد أن كنت جنّيًّا، كما فهمتَ، غفر الله لك؛ بل أنكرتُ على من يُنكر ألاّ أكون كما جاء في البيت، لما أنا فيه من عنت.
|
وقال عن قصيدة: «شعراء قتلوا: المتنبّي مثلاً» إنّها جميلة؛ ولكنّه حذف كلمة مثالاً من عنوانها. واستشهد منها بالأبيات التّالية التي فاقت غيرها في مألوف التّشويه:
|
اندثرنا فكل صف بسيف |
يطعن الآخرين وهو خواء |
ما طلبنا إلا رماح عوال |
وسهام، وطعنة نجلاء |
في صدور الأعداء إلا درة |
في صدور الذين هم أصدقاء |
زاحمتنا المنون من كل فج |
وتناءت بسهمنا الأنواء |
ف»طلبنا» في البيت الثّاني هي «خلبنا»، و»المنون» في البيت الأخير هي «الظنون». و»إلا درة» في البيت الثالث هي «لا لا وربّي»، وما أدري من أين جاءت هذه الدرة الّتي هبطت بالبيت إلى مستوى فكريّ غير مقبول؟؛ أهذه إحدى تبعات توظيف التّقنية بغير إتقان؟
|
نخلص إلى أنّه لم تختلف قراءة ديوان «ثمار الإنهاك»، في نمطها، عن قراءة ديوان «الإنسان ذلك الشيء»؛ وإن كانت زادت عنها في عبارات الإشادة الّتي أشكر النّاقد عليها؛ وزادت في البعد عن المعنى الّذي ظلّ خارج الصّومعة. ولا ريب أنّ تكاثر الأخطاء، وتشابهها، وشبه اقتصارها على النّصوص الشّعريّة المقتبسة دون النّثر المصاحب لها، يجعل النّاقد مسؤولاً عنها، قبل غيره من النّاس. دعونا نرى هل سيستمر هذا النّمط من القراءة في ديوان «خمول في زمن الازدهار» أو أن النّاقد سيفاجئ القراء بقراءة أخرى يخلد فيها المعنى إلى نصّه في صومعة أحسبها لم تُبن لغير ذلك.
|
أستاذ الهندسة المساحيّة - جامعة الملك سعود |
|