قضيت مع عائلتي إجازة الصيف هذا العام في لبنان، ولم أكن أجهل هذا البلد؛ فقد تعرفت على لبنان قبل أكثر من خمسين عاماً، من خلال أدبائه وشعرائه وكتابه ومفكريه وفنانيه. ولست أعني الكبار الذين رفعوا رايات لبنان في المهجر، بل أعني الذين أضاؤوا سماء لبنان من أرضه بفكرهم وأدبهم وفنهم، فانعكس هذا الضوء على مساحة عريضة من الوطن العربي وأيقظ عقولاً نائمة من سباتها.
هل يجهل أحد من الجيل الذي رضع الثقافة وذاق الفن الرفيع في الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات الميلادية من القرن الماضي قامات فنية مثل فيروز أو وديع الصافي أو فكرية مثل مارون عبود أو شعرية مثل بشارة الخوري (الأخطل الصغير) أو سعيد عقل أو صحفياً مثل سعيد فريحة أو مناهل أدبية مثل مجلة الأديب (ألبير أديب) أو الآداب (سهيل إدريس) أو مناهل علمية كالجامعة الأمريكية وجامعة بيروت العربية التي خرّجت عدداً من أبناء ذلك الجيل من بلدنا ؟ وبالطبع ليس هذا كل ما جادت به لبنان. فمع هؤلاء وقبل هؤلاء كان هناك آخرون ساهموا بعطائهم الغزير في تشكيل تيار الفكر والفن والثقافة الذي تدفق من لبنان وأنشأ في جوه بيئة ثقافية جذابة، بلغ من جاذبيتها - مثلاً - أن علامتنا الكبير حمد الجاسر - رحمه الله - اختارها مستقراً له في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات الهجرية. وفي غير المجال الثقافي كنا نعرف لبنان من خلال مركزه الاقتصادي القوي وصحافته الحرة والشطارة والمهنية العالية التي يتمتع بها اللبناني.
هذه هي الصورة الأولى عن لبنان التي عكست للأذهان تأثيره الساحر. لم يكن جيلنا - آنذاك - يرى وراء الصورة ما يكدر صفوها من انتماءات طائفية ومذهبية - على الرغم من أن بنيان الحكم في لبنان كان منذ استقلاله قائماً على أسس المحاصصة الطائفية وعلى الرغم من هزات سياسية (عام 1958م مثلاً) أصابت لبنان. فقد كان في الصورة لبنان واحد ودولة واحدة واقتصاد حر مزدهر، ولكن مفكرون وأدباء وفنانون كثر لا تميزهم إلا إبداعاتهم أو اتجاهاتهم الفكرية الحرة الخاصة بصرف النظر عن أصولهم المذهبية والطائفية. هذه الصورة - يمكن أن يقال - رسمها الإنسان اللبناني. أما الصورة الثانية التي يكسوها السحر والجمال فهي التي رسمتها طبيعة لبنان وتاريخه. جبال خضراء وسحب تغدو وتروح وجو لطيف وبحر تتكسر أمواجه على طول جانب لبنان الغربي، وخيرات مما تنبت أرض لبنان كثيرة وطيبة. ألم يكن التفاح اللبناني سيد الفاكهة في أسواقنا يوماً ما!؟ مع كل البهاء والتنوع الذي حبا الله به طبيعة لبنان، فإن التاريخ قد طوق جيد لبنان بمعالمه الجميلة. فترى هنا وهناك - كما في بعلبك وجبيل - آثاراً حضارية وشواهد مما تركته الممالك والأمم التي تعاقبت على أرضه منذ آلاف السنين في سلسلة تكاد تكون حلقاتها متصلة من فينيقيين ورومان وأمويين وأوروبيين (الحروب الصليبية) ودولاً ودويلات إسلامية مختلفة وعثمانيين وأمراء لبنان القدامى. لكن التاريخ ما ترك آثاره الراسخة على الأرض ورحل، بل بقي تأثيره ينبض بالحياة فتشكل مجتمع لبنان على نسقه مجتمعاً متعدد المذاهب والطوائف وزاد من التعدد فيه هجرات أقوام ينشدون الأمان فوق جبال لبنان بحيث يمكن للمرء أن يتخيل أن تضاريس لبنان وتاريخه قد اقترنا فتمخّض عنهما هذا المجتمع الذي تتنوع ألوانه، لكنها لا تتنافر بل ينسجم بعضها مع بعض كما كان الحال إلى ما قبل خمسة وثلاثين عاماً.
ثم جاءت الحرب الأهلية الضروس التي سحقت المنجزات الحضارية لهذا المجتمع وقطعت أوصاله فأهلكت وشوهت وشردت وهجّرت من هذا المجتمع من طالته أنيابها. وأنقذ المتحاربين المنهكين اتفاق الطائف، ثم أعقبته سنوات الترميم وإعادة البناء. فما الذي بقي وما الذي تغير أمام ناظري سائح تعرف على لبنان قبل خمسة وثلاثين عاماً ؟ لقد بقيت صورة الطبيعة والتاريخ بسحرها وجمالها. وربما يكون في هذا ما يرضي السائح الذي لا يريد غير ذلك.. فالذين يأتون إلى لبنان - في أشهر الصيف خاصة - يأتون للاستمتاع بطبيعته وبجوه اللطيف (والبراد الذي ينعش أجساد المصطافين - وإن كان حظهم من ذلك في هذا الصيف قليل بسبب الحر الشديد الذي لم يشهد مثله لبنان منذ أعوام طويلة). لكن الاستمتاع بالجو اللطيف ما كان له أن يتم لولا وجود الفضاء الرحب الذي يتنفس فيه السائح بصدر منشرح ويتخيّر فيه ما يشتهي من أماكن الاستمتاع وأوقاته. فإنك - أنت وعائلتك - قد تجد المتعة في التنزه أو تناول الطعام مرة على رأس جبل ومرة على شاطئ البحر، ومرة في موقع حاشد بالآثار والمعالم التاريخية ومرة في موقع تحفّ به الأشجار الوارفة، أو تطل منه على طبيعة يعجبك منظرها. كل ذلك لا يحجبك عنه حواجز مصطنعة تقيد حركتك أو تفسد متعتك. ولو كان الجو الطبيعي اللطيف وحده هو كل ما هنالك لكانت منطقة عسير أولى بالسياحة من لبنان، لأنها لا تقصر عنه في جمال طبيعتها شيئاً. ثم إنه قد بقيت أيضاً صورة الإنسان اللبناني المتجدد الذي اكتسب من التاريخ والتضاريس صفة الصبر والقدرة على النهوض بعد العثار - ولو على عكاز ! - وإعادة البناء إذا كانت الوسائل لذلك في متناول يده. هذا ما يشهد عليه إعادة إعمار وسط بيروت ومطاره الدولي وإنشاء أحياء جديدة وطرق وجسور بعد انطفاء الحرب الأهلية وإبرام اتفاق الطائف، ثم إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل في حرب عام 2006م من أحياء سكنية ومدن وجسور ومرافق.
لكن الذي افتقدناه في لبنان كثير وإن فقده لمرير !
ذلك الضوء الذي كان يشع من سماء لبنان اختفى، ولم نعد نرى إلا بضع ومضات لبنانية تشع هنا وهناك من سماوات غير لبنانية فبعض كبار الكتاب أو المفكرين اللبنانيين الأوائل هاجروا وصاروا يكتبون في الصحف أو يؤلفون الكتب خارج لبنان.
وذلك المجتمع المتعدد الألوان المتآلف الموحد في انتمائه للوطن اللبناني حطمته الحرب الأهلية وفككت روابطه. فصار المرء لا يرى إلا إفرازات هذه الحرب. كان مرافقي اللبناني - ونحن نجوب شوارع بيروت وطرق لبنان - يشير إلى هذا الحي أو المنطقة فيقول هنا تقطن أغلبية مسيحية وفي مكان آخر يشير فيقول هنا تقطن أغلبية شيعية وهنا أغلبية سنية وهنا أغلبية درزية... إلخ. ثم يقول هذا الفرز الجغرافي الواضح لم يكن موجوداً على هذا النحو قبل الحرب، ولكن الخوف والاستقواء بالطائفة والكراهية إلى حد القتل على الهوية أوجد الشروخ العميقة داخل المجتمع اللبناني. فأضعفت كيانه وخلخلت بنيانه وصار فريسة سهلة لأعداء الداخل والخارج. وكنت أجد في حديث مرافقي نصيباً من الصحة وشيئاً من المبالغة - خاصة ما يتصل بالقتل على الهوية. إلى أن قرأت في الصحف تصريحاً للزعيم الدرزي وليد جنبلاط قاله في خضم المعركة الكلامية التي دارت رحاها حول القرار الظني المتوقع صدوره من المحكمة الدولية. فقد تساءل بما معناه: (لو كنت طالبت بمحكمة دولية إثر مقتل والدي كمال جنبلاط فهل ستفيد هذه المحكمة في منع قتل المسيحيين الأبرياء ؟) وهو يشير بذلك إلى المسيحيين الذين كانوا يقطنون في مناطق الأغلبية الدرزية ومثل هذا القتل كان يحدث - كما قال مرافقي - في مناطق الأغلبية المسيحية أو المسلمة. وهذا شبيه بما حدث في العراق في السنوات القليلة الماضية إذ إن الظروف المواتية متشابهة: دولة ضعيفة (أو حكومة ضعيفة أو متحيزة) وطوائف متعددة ملعوب بعواطفها. وهذا يجعلني أشير إلى الجو المشحون المتوتر الذي عايشناه في الأسبوع الأخير من إجازتنا. وأقول عايشناه ولم أقل عشنا في وسطه، لأن الشحن والتوتر حصل في سحب تجمعت في طبقات الجو العليا من جراء احتكاك التصريحات والتهديدات والمواقف التي أعلنها قادة الكتل والتيارات والأحزاب وفق ميولهم (أو انتماءاتهم) المذهبية أو الطائفية أو السياسية على إثر التسريبات المتعلقة باحتمال صدور قرار ظني من المحكمة الدولية يحمل في طياته اتهاماً لبعض الأشخاص المنتمين إلى منظمة حزبية لبنانية بالضلوع في جريمة قتل رفيق الحريري. وقد ألقت هذه السحب بظلالها على الصحف والقنوات التلفزيونية. والظلال تكون في بعض الظروف أطول من مصادرها، بما تضفيه التحليلات والتعليقات من استنتاجات قد لا تكون واقعية. ولو أراد المرء أن يساير هذه الظلال لخيل إليه من قتامتها أن لبنان مختطف ومُرْتَهن. أما على أرضية الحياة اليومية فلم يكن للسحب ظلال، بل سارت الحياة على وتيرتها فالشوارع والمجمعات التجارية يدور فيها المتسوقون، والمطاعم ممتلئة بالشاربين والطاعمين وطرقات (السوليدير) ومقاهيه مكتظة بالجالسين والغادين والرائحين الذين يجدون متعة في تزجية ساعات من الليل على هذا النحو. على أن سحب الشحن والتوتر سرعان ما انقشعت وحلت محلها نسائم الأمل والارتياح التي رافقت زيارة خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز ومعه الرئيس السوري بشار الأسد للبنان في يوم الجمعة 30يوليه. وكما عايشنا جو الشحن والتوتر قبل هذه الزيارة فقد عايشنا جو الأمل والارتياح والتهدئة. لكننا أيضاً استوعبنا درساً لبنانياً من التاريخ ومن الواقع المعاصر. وهو أن الشروخ الطائفية التي تخترق بنيان المجتمع اللبناني تشرذم هذا المجتمع وتحوله إلى أجزاء متباعدة تتطاير بنفخة واحدة تهب عليها - خلف أي غطاء براق - من زعيم لحزب أو طائفة أو تيار أو دولة لها مكاسب أو مصالح من خراب لبنان، فيتحول لبنان ذاته من بلد السحر والجمال إلى بلد مسحور يتحكم في مصيره سحرة آخرون. على أنه ليس صعباً أن يعود لبنان إلى عصره الذهبي إذا تماسكت طوائفه وتخلت عن التعصب العاطفي والانقياد الأعمى وراء أولئك السحرة ووحدت ولاءها لوطن واحد ودولة واحدة.
بعيداً عن السياسة وقبل الوداع أراني مدفوعاً إلى تسجيل ملاحظتين قد لا يلفتان الانتباه. أولاهما أن قلة الموارد في لبنان لم تكن حائلاً دون فرض حد أدنى للأجور للمواطنين، وثانيتهما أن انقطاع الكهرباء المتكرر في بيروت وجد معالجة شعبية تمثلت في توفير المولد الاحتياطي في كل مرفق أو عمارة سكنية أو محل تجاري، ففي أحلك الظروف هناك دائماً سبيل إلى النور ما على الإنسان إلا أن يسعى ليجده.