كثيرة هي الشروط المترتبة على الشاعر حين يكتب قصيدته، حتى يصل بها إلى مدارج (الإبداع).. غير أنّ أياً من تلك الشروط لم يعد مطلوباً الآن طالما أنّ الشرط الأهم والأوحد أصبح هو (الإبداع)!
على هذا الأساس لا يهمني شكل القصيدة - أو هكذا أزعم! - في حين أنني أولُ من يلتفت إلى هذا الشكل أساساً!
ولأن الشاعرة الدكتورة أشجان هندي معروفة كواحدة من شاعرات جيلنا الذي تهيمن على شكل الشعر فيه قصيدةُ (التفعيلة) أو التي أفضل تسميتها (القصيدة الحرّة) لأنها التسمية الصحيحة، وأستاء جداً ممن يحاول اختطاف هذا المسمى لإلصاقه بقصيدة (النثر) التي أظن أن اسمها الملائم لها هو (النثر الإبداعيّ) وإن كنتُ لا أعترضُ على وصفها (قصيدة نثر) فهي كذلك، غير أنها أبداً ليست (قصيدة حرّة) لسبب واضح: أنها (مقيّدة) بنثريتها المخالفة لكونها (قصيدة) في حين أن القصيدة (الحرّة) هي التي تتحرر وهي بكامل كيانها (كقصيدة) متجاوزة قيود القافية وانتظام الصدر والعجز في كل بيت..
أقول: لأن الشاعرة أشجان معروفة، منذ منتصف التسعينيات الميلادية، بهذا الشكل الشعريّ المعاصر (قصيدة التفعيلة - أو القصيدة الحرة: سيّان) فقد استوقفني ما أبدعته مؤخراً في ثلاث قصائد أراها من عيون الشعر (العمودي) المنظوم في الألفية الثالثة، أو بذلك الشكل الذي بتنا نسميه (التقليدي) أو (الكلاسيكي) أو (التناظري) وكأننا ننسى أنه هو الشكل الأساس للقصيدة الشعرية العربية!
لن أخوض أكثر في هذه المسائل التي لا ينتهي الجدل فيها إلاّ بالعودة من حيث بدأ، فما أريده هنا هو التوقف عند خاصية هامّة من خواص القصيدة العربية وهي (بيت القصيد) الذي لفت نظري في القصائد الثلاث الأخيرة لأشجان هندي، ففي قصيدتها المنشورة في العدد 301 من ( المجلة الثقافية - المتوقفة حالياً للإجازة) وعنوان القصيدة (يتشابهون وأنت استثناءُ) أجدُ بيتاً شدّني حتى حسبته (بيت القصيد):
إن قيّدتْ أرضٌ، وضاقَ فضاؤها
يتشابهُ السجناءُ والطلقاءُ..!
غير أن القصيدة، لأنها تتحدث عن العظيم غازي القصيبي، فقد كانت تضجّ بأبياتٍ عظيمة يستحق كلّ منها أن يكون (بيت القصيد) ولكني سأتوقف عند:
غازي الذي إن قيل (غازي) أنصتتْ
كلُّ الدُّنى، وتوحّدَ الفرقاءُ..!
أمّا في قصيدتها الثانية، والمعنونة بشطر من أبياتها (للناي حزنٌ وللأوتار أحزانُ) المنشورة في العدد 315 من (الثقافية) بتاريخ 17-6-2010 فإن كان للشطر الذي اختارته عنواناً لقصيدتها دلالة على أن الناي والوتر وجهان لعملة واحدة هي (الحزن) فإن (بيت القصيد) كما أراه هو:
ضاقَ الفضاءُ، فضق ذرعاً بأذرعةٍ
إن طوّقتكَ طوى كفيكَ حرمانُ..!
فبيت القصيد، في رأيي، لا يعني أجمل أو أكمل أو أهم بيت في القصيدة، بقدر ما يعني (القضية) التي ينشغل بها الشاعر في معظم قصائده، أو المحور الذي يعنّ عليه في ثنايا أبيات القصيدة كلها..
وأخيراً، في قصيدتها (أعداد) المنشورة في العدد 317 من (الثقافية) مصدّرةً بإهداء (إلى كلّ طفلٍ خانهُ ضجيجُ أصواتنا) فأظنّ في (إهدائها) يكمن (بيتُ القصيد)!
وأتساءل ببراءة: ما الذي جعلني أربط هذه القصائد الثلاث ببعضها وأحاول اقتطاف (بيت القصيد) من كل واحدةٍ منها؟ هل كونها متقاربة زمنيا جعلني أنظر لها ك(دفقة واحدة)؟! أم لأنها أتت بالشكل (العمودي) الذي لم يعد يأتي إلاّ بإحدى حالتين: (تقليدية متجمّدة) أو (احترافية مغايرة)..؟؟
الواقع الذي أستشعره هو أن (الإبداع) الحقيقيّ يصنع لنفسه ما يدعمه من (الذكاء) الحقيقيّ، وأحسبُ أن المبدعة د. أشجان هندي قد حققت ذلك في قصائدها الثلاث، حتى أنني بتُّ أسأل نفسي بانتباهٍ كمن يستفيق من غفلةٍ: لماذا لم أكتب قصيدة (عمودية) منذ زمنٍ طويل..؟!
كنتُ أردد دائماً، كإجابة عن مثل هذا السؤال: إنها حالة من (الارتياح) للشكل الشعريّ (الحرّ) أو (قصيدة التفعيلة) فهل كنتُ صادقاً في أنها مجرد (حالة ارتياح)؟!
أقول بصدقٍ تدفعه الشجاعة: إنما هي حالة من (التقليدية) و (المحافظة) على الشكل (الحرّ) والحرص عليه خوفاً من فقدانه، وعلى هذه الافتراضية فالقصيدة (العمودية) تصبح هي (الحرّة) التي تنأى عن مكامن - أو كمائن - (الحرّية) نفسها..!
فتحية للشاعرة أشجان على حريتها في تشكيل إبداعها، وتحية للجزيرة الثقافية التي أراها (وأراهن عليها) بوصفها الصحيفة الأكثر احتفاءً بالإبداع بأيّ شكلٍ جاء..
فيصل أكرم
ffnff69@hotmail.com