هذا بحث جاد ويتسم أيضاً بالطرافة، فقد شاع في هذه الأيام لقب الزعيم (الأممي)، وهو لقب عارٍ عن الصحة لغوياً، ففي قواعد علم الصرف أن النسب لا يكون للجمع إلا إذا تعذر النسب إلى المفرد نحو (صبي) لكون آخره ياء مشددة لا يمكن أن تلحق بها ياء النسب المشددة أيضاً دفعاً لتكرار حرف واحد هو (الياء) أربع مرات متجانسة.
وفي هذه الحالة ينسب إلى الجمع (صِبيان) فيقال (صِبياني)، أو تعذر النسب للمفرد مثل (امرأة) فينسب في هذه الحالة إلى جمعه المختلف عنه في اللفظ وهو (نساء) فيقال (نسائي).وهناك أنموذجات أخرى قليلة لنسب مشتبهٍ وملتبس أو مماثل للنسب إلى المرأة والصبي ونحوهما مما شذ من الكلمات عن القواعد الصرفية العامة للنسبة. أما (الأمم) فهي جمع تكسير له مفرد من لفظه وهو (أمّة)، والقائل في النسبة إلى الجمع (أممي) غالط، والصحيح أن ينسب إلى هذا المفرد فيقال (أُمّي).
وفي هذا السياق نوضح الاحتمالات المتعددة لمعنى (أُمِّيّ) وهي:
1 - أن يكون المقصود بهذا اللفظ النسبة إلى المفرد (أمة) وذلك بحذف الهاء من آخر المنسوب إليه وإلحاق ياء النسبة (المشددة) به، وهو المراد بالنسبة إلى الزعماء الذين يتلقبون بهذا اللقب في العصر الحاضر.
2 - أن يعد لفظ (أُمِّي) كلمة واحدة مكونة من ثلاثة أحرف أصلية ثانيها وثالثها مزيدان بالتضعيف، ومعناه (الجاهل).
3 - أن تكون (أمي) بياء ساكنة مخففة مركباً إضافياً - لا نسب فيه - مؤلفاً من اسمين أحدهما ظاهر وهو المضاف (أم) والآخر المضاف إليه ضمير متصل هو (ياء المتكلم) التي لا تشدد، ويصبح المعنى (والدتي) سواء على الحقيقة أو على المجاز.
والصحيح - والله أعلم - أن يقال بدلاً من الزعيم (الأممي) الزعيم (العالمي) نسبة إلى اسم الجمع (العالَم) المفرد لفظاً الجمع في المعنى، أو الزعيم (الدَّولي) بفتح الدال نسبة إلى المفرد (دَوْلَة).
ومن المفيد هنا أن نستذكر قولاً مأثوراً في علم الفقه يمكن أن نسحبه على متن اللغة وقواعد النحو والصرف وهو (الضرورات تبيح المحظورات) فيكون الاستعمال الحديث والمصطلح الجديد (أممي) الخاطىء المحظور داخلاً في هذه الحالة في باب (صواب الضرورة) مما يجعل كلمة (أمي) الصائبة مهملة، (والخطأ الشائع كأممي خير من الصواب المهمل كأمي) كما يشاع.
ويمكن أن نلحق في هذه المسألة ونحوها مخترع كلمة (أممي) أو من أكثر استعمالها حالياً (مع تأخره في الزمان) بزمرة من يحتج بهم في العادة في قواعد اللغة وفي شواهدها المأثورة والمسموعة منذ القدم من لغويّي العصر الجاهلي وصدر الإسلام ومن شعرائهما كامرىء القيس وزهير والأعشى وجرير والفرزدق وحسان بن ثابت ومعاصريهم إلى الشاعر.
هرمه المتوفى 176هـ الذي انتهى بعده زمن الاحتجاج، فهؤلاء هم الذين يعتمد على قولهم وشعرهم في إقامة القواعد النحوية والقوانين اللغوية وتأسيسهما، ولا يعتمد في كل هذا على المتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي ومعاصريهم ومن أتى بعدهم من فحول الشعراء وكبار اللغويين على اعتبار أنهم (محدثون)، وهؤلاء (المحدثون) جميعاً - على الرغم من أهميتهم - ممن يُستأنس (فقط) بشعرهم في هذه القواعد والقوانين التي وضعت قبلهم واعتمدت من سابقيهم وجرى استعمالها لديهم، وذلك بسبب شيوع العجمة في زمانهم المتأخر بعد مغادرة أكثرهم لبواديهم واختلاطهم في الحواضر بغير العرب من الأقوام التي اعتنقت الإسلام وتعلمت العربية التي لم تكن لغة الفطرة عندهم كما كانت عند أصحابها الأصليين عرب البادية الأصلاء.
إننا إذا ألحقنا مخترع كلمة (أممي) أو من أكثر استعمالها بالقدماء الذين يحتج بهم نجعل - بما فعلناه - عصرنا الحاضر امتداداً لعصر الاحتجاج الأول، وفتحاً لباب الاجتهاد اللغوي من جديد، وهذان أمران مبتدعان ومستهجنان أيضاً بسبب فساد السلائق واضطراب الأمزجة وضحالة الثقافة وشيوع العجمة وسيادة اللحن في المعاصرين من القاعدة إلى القمة.
أنا آمل أن يلقى بحثي اللغوي هذا قبولاً، وأشكر في الوقت نفسه صحيفة (الجزيرة) الغراء التي أتاحت لي مشكورة وللقراء كذلك فرصة الاطلاع على هذا البحث الصرفي المستفيض الذي أرجو أن يكون مفيداً.
* أستاذ سابق في الجامعة