إن من أعجب ما يلفت الانتباه أنّ مستعملي العربية، على كثرة تلاوتهم القرآن وحفظه ودرسه، تراهم تركوا استعمال بعض ألفاظه وتراكيبه؛ فلا تصادفها في لغتهم الشفاهية إلا إن عرضت في آية مقتبسة أو مستشهد بها، ولا تجدهم يستعملونها في كتاباتهم، وكان يتوقع أن تكون لغته كلها مستوعبة في لغتهم وبخاصة أنه عندهم أعلى نصوص اللغة جمالاً ودقة تعبير، ومن أمثلة الألفاظ القرآنية الفعل (يختان) قال تعالى ?عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ? «187-البقرة»، وقال عزّ وجلّ: ?وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ? «107-النساء».
والفعل بهذه البنية غير مستعمل في لغة الناس اليوم، ولعلهم استغنوان بالمجرد (خان) عن المزيد (اختان)، وهم يستعملون المجرد بدلالات مختلفة منها الخذلان والخديعة، وأما المزيد (اختان) فجاء عنه في (الدر المصون في علم الكتاب المكنون، 1: 433): «و(تَخْتَانُونَ) تَفْتَعِلُونَ من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ؛ لقولهم: خَانَ يَخُونُ، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خَانَ يَخُونُ خَوْنًا، وخِيَانَةً، وهي ضدُّ الأمانة».
و(تَفْتَعِلُونَ) هي بنية اللفظ عندي، ويعده جمهرة الصرفيين وزنًا، وأما أنا فأتابع من يرى الوزن ما ماثل المنطوق، فيكون الوزن (تَفْتَالُونَ)؛ لأن عين الفعل (الواو وكسرتها) حذفتا لوقوع الواو بين حركتين، ثم عوض عنهما بمطل فتحة التاء. وأما من حيث المعنى فجاء في تفسير القرطبي (2: 315) «يقال: خان واختان، بمعنًى، من الخيانة؛ أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب». وربما فهم من قوله أنّ الفعلين متماثلان معنى، وليس الأمر كذلك؛ لأن في اختان زيادة مبنى وهبت زيادة معنى، وهو أن في اختان تعمد الخيانة، وهو يختلف عن التعبير عن مجرد فعل الخيانة الذي قد يقع من غير عمد. ففي اختان نص على تعمد الخيانة، وكذلك نجد الفعل (كسب) يختلف عنه الفعل (اكتسب)، قال تعالى: ?لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ? «286-البقرة». ولعله من الوهم ما أورده صاحب الصحاح وتابعه عليه صاحبا اللسان والتاج، قال الجوهري: «خانَهُ في كذا يَخونُه خَوْنًا وخِيانَةً ومَخانَةً، واخْتانَهُ. قال الله تعالى: (تَخْتانونَ أَنْفُسَكُمْ) أي يخونُ بعضُكم بعضًا». فقوله موهم أن بنية (تختانون) تدل على المفاعلة كالأفعال التي على فاعل (شارك / عاون/ بايع/ ناول) أو على تفاعل (تشارك/ تعاون/ تبايع/ تناول)، والصواب ما ورد في قول القرطبي.