مذ تعرفت على شاعرنا في أواخر عام 71م كنت ألمس إعجابه الشديد بقصائد محمد الماغوط وخاصة ما تضمنه ديوان «حزن في ضوء القمر»، وببعض لمحات من قصائد مترجمة للشاعرين ناظم حكمت وبابلو نيرودا، وكان يستذكرها في بعض لقاءاتنا.
و في سهراتنا، لم يكن هنالك أجمل من لحظة ننصت فيها إلى «العلي» وهو يقرأ الشعر سواء من قصائده أو لغيره من نصوص التفعيلة، أو ينشده على طريقة المناسبات الدينية، حيث يرتفع الحزن الساكن في صوت حسينياته إلى ذرى فرح مبتهج بعوالم الشعر ورهافة الشعرية، ولكنه لم يسمعنا طوال حياته المديدة وحتى اليوم شيئاً من قصائد النثر التي كتبها، بل إنه لم يشر إلى تجربته في كتابتها إلا في حوار سجلناه معه لمجلة «النص الجديد»، عام 93م، حين أشار في معرض مآخذه على شعرائها الشباب، إلى أنه قد كتب قصيدة النثر منذ زمن بعيد.
وحين عدت إلى المجلة لأتأكد من تثبيتنا لكلامه وجدت أننا قد أغفلنا أو سقط منا سهواً تدوين تلك الملاحظة المهمة تاريخياً، ولعل الأصدقاء الذين حضروا معي ذلك الحوار ومنهم أحمد الملا ومحمد الدميني وعبدالرؤوف الغزال يؤكدون معي صحة تلك الإشارة!
وقد أشرت في حلقة سابقة إلى أن شاعرنا لم ينشر أي نص من قصائد النثر في الصحف والمجلات، مثلما أنه لم يقرأ أي نص منها في أمسياته الشعرية، ولكن أحد المتابعين لمقالاتي (الأخ الربيح من الإحساء) اتصل بي ليلفت انتباهي إلى أن العلي قد نشر بعض قصائد النثر في جريدة الحياة في عام 2002م، أي أن شاعرنا قد اقتنع بنشرها خلال مرحلة هجرته الثالثة إلى لبنان، وبعد كتابته لأول نص بـ 35 عاماً!.
إذن جرّب محمد العلي كتابة قصيدة النثر (ولعله اختلى بها ومكّنها من نفسه منذ عام 1967م وحتى اليوم)، ولذا سنستدعي سؤالنا الأساسي الذي طرحناه في أولى حلقات «العلي وقصيدة النثر»، حول: ما الذي يغري شاعراً متميزاً في إبداع قصيدة العمود ومتألقاً في كتابة قصيدة التفعيلة، لكتابة قصيدة النثر؟.. ولماذا كان يخفي نتاجه منها طيلة هذه المدة؟.
لو حملنا هذا السؤال اليوم إلى شاعرنا، لتملّص من الإجابة عليه، وقال بطريقته الساخرة «أنا إنسان مزاجي، وهذا الذي حدث»، ولكننا لن نتركه ينعم بالفرار من السؤال، وسنبحث عن الإجابة عبر الوقفات التالية، وله الحق بعد ذلك في رفع دعواه علينا أمام قاضي ديوان مظالم الشعراء الساخرين «حسن السبع»:
1 - ينطوي التكوين النفسي والثقافي والفني لشاعرنا على شعلة وجدانية شفافة، تهوى الجمال وتطرب لعناصر الدهشة والجدة والمفارقة والاختلاف أنّى كان مصدرها وطبيعة تشكيلها، وتتعشّق مآلات الحرية في الخروج على قيود التأطير والقسر والنمذجة. وقد أعانه هذا التكوين على حسم خياراته الفكرية والعقائدية والفنية، والانتقال من خندق الاستكانة لمواضعات الموروث والسائد إلى الخندق المغاير، وكانت تجربة انحيازه لكتابة قصيدة التفعيلة تمثل ذروة تلك التحولات، التي فتحت أمامه أفق التجربة والتجريب على مصراعيه، ومن ذلك موقفه من قصيدة النثر التي لم يكن تخليها عن إيقاع التفعيلات المقيدة أو المفتوحة يشكّل حاجزاً بينه وبين الاستمتاع بجماليات ما يعده متميزاً منها، وننقل عنه ما يقوله في هذا السياق:
«قصيدة النثر موجودة حتى من قبل التفعيلة، فماذا نسمي نثر جبران ومن قبله الرافعي؟»..
- «الشعر هو الذي ينقلك من حالة إلى حالة، وحين أقرأ أربعة أو خمسة أسطر من كتابة الماغوط، فإنها توصلني إلى حالة لا تستطيع عشرات القصائد أن توصلني إليها..».
«... قصيدة النثر كشكل تعبيري جمالي هي إغناء للغة، وتوسيع للحظة الجمالية، ولا يمكن أن نحرم أحداً من الأخذ به للتعبير عن الحالة الجمالية المطلوبة.» (مجلة النص الجديد -العدد الأول- عام 1993م).
2 - تكوينه الثقافي والفكري المعاصر هيأه لتقبل حقيقة الاختلاف وحق الوجود لكافة الأطراف المتعايشة والمتصارعة لتعبر بشكل حضاري عن خياراتها وأذواقها ومشاعرها، وفي ذلك يقول:
«الاعتراف بشرعية الاختلاف يأتي من الاعتراف بشرعية الوجود.. فأنا موجود وللآخر حق الوجود، هذا هو حكم الحياة، هذا يخالفني في الرأي أو العقيدة أو الشعر.. ليكن.. فنحن موجودون وتحكمنا حياة واحدة، لنختلف إذن دون أن ينفيني أو أنفي شخصاً آخر، لأنه لا يؤمن أو يعتقد أو يفكر أو يتذوق شيئاً مخالفاً لي.. فهذا نقصٌ في إدراكي وفي فهمي للحياة نفسها.. وهو نقص وجودي في داخلي.. وعلينا أن نتحمّل القسوة أو الإهانة في سبيل أن يأخذ الاختلاف شرعيته». (النص الجديد - الإشارة السابقة).
3 - حين نقرأ مقالاته القصيرة سنرى نسيجها وقد انبنى على الكثير من المقومات الأساسية الكلاسيكية لكتابة قصيدة النثر(التكثيف، والإيجاز، والصورة الجمالية التي تقوم على مجاز اللغة وعلى المفارقات الخ..)، ولنقف على هذين النموذجين:
أ- من مقالته بعنوان «الصوت منفرداً» المنشورة في جريدة اليوم في عام 1969م، والحديث فيها موجه إلى الصحف:
«- ماذا تريدين
- أريد حروفاً لملء الفراغ في اطراد الزمن
حجارةً لأردم المستنقعات في طريق العبور
من اليقظة إلى الرقاد
كلمات تلبس رشاقة الدُّمى، ولون الأزياء
لا تمرّ بقلبك
تعبر من تثاؤب المعجمات، أو غبار الأصوات العتيقة
إلى قلمك...
- أصرخ وحدك أيها المغفل
فالقارئ يريد أن يضحك !!» ( محمد العلي – شاعراً ومفكراً – ص 21)
ب - ولنقرأ الفقرة الأخرى المكتوبة في زاويته «بعد آخر «في عام 1400هـ:
«ها أنت الآن تنفض عنه الغبار
لقد أكتظّ صمتاً
وكان في غمده يحلم بالصهيل
ثم يشرب الحلم،
هل تعرف لماذا اعتبرَتْ بعض الأمم «البومة»؟
طائراً مقدساً
حيث تبصرها دائماً
عند قدمي «أثينا» الناضجة الحكمة؟؟
قلمٌ أنت أم عصا؟!
هيا أنهض، فعليك أن تعود إلى أبواب الشعر جميعها...
ما عدا بابا واحداً عليك أن تفرّ منه
هو الغزل» (محمد العلي - شاعراً ومفكراً - ص 29).
هاتان الفقرتان نقلتهما كاملتين، بعد أن أعدت توزيعهما الكتابي، لا لأقف أمام ما يدهشنا من لغة ودلالات تشع منهما، وإنما لأسوق المثال (رغم الصعوبة في الفصل بين الرؤيا ولغة شكلها التعبيري) على توفر مقومات شكل القصيدة النثرية فيهما وفي المئات من مقالات شاعرنا!
تحفظات «العلي» وأنموذج «الماغوط»
وبالرغم من كل ذلك نجده يكرر، وفي حوارات عديدة، منها ثلاثة تضمنها كتاب الأستاذة عزيزة فتح الله (العلي شاعراً ومفكراً)... تحفظاته أو انتقاداته الشديدة لشعراء النثر، حيث يقول «شبابنا..شعراؤنا الجدد يجهلون التعامل مع اللغة، ومن أهم أبعاد التعامل مع اللغة هو أن يكون للإنسان قضية يعيشها ويدافع عنها، حتى لو كانت قضية النشالين أو قطاع الطرق.. قضية يحملها في داخله ويؤمن بها حتى العظم، حتى النخاع». (حزام العتيبي - ثقافة اليوم/ جريدة الرياض - مارس 1990م)
ويقول أيضاً: «شعراء قصيدة النثر يعتقدون بأن اللغة مفردات.. في حين أن اللغة ليست مفردات.. اللغة علاقات.. وهذه العلاقات محكومة بإرث تاريخي.. ولك الحق أن تطوره.. أن تولّد علاقات جديدة.. لكن أن تأتي بالمفردات وحدها وتظن أن هناك علاقات بينها.. فذلك يؤدي بك إلى الهاوية». (مجلة النص الجديد – الإشارة السابقة).
وبالرغم من أن شاعرنا يقف دائماً ضد صنمية النموذج، إلا أنه في الحوار الذي أجراه معه ميرزا الخويلدي قد أقام «الماغوط» في موقع متنبي قصيدة النثر: «قصيدة النثر لم تتطور بل ازدادت تعقيداً، وازدادت نضجاً، لكني لا أرى محمد الماغوط مكرراً، فلم يتجاوز أحد شعراء النثر «الماغوط»، وهذا عجز في شعراء النثر». (جريدة الشرق الأوسط - 17-9-1997م).
إذن ما زال أنموذج الماغوط يشكل مرجعية مسطرة تذوق شاعرنا لقصيدة النثر وكتابتها، ولم يتجاوزها إلى سواها من تجارب، ولسوف نجد آثار ذلك النموذج متوارية خلف ما يتسرّب من جملة الماغوط الشهيرة «تشبّث بقبرك أيها المغفّل «أو من بعض أجزائها، في بعض قصائده التفعيلية أو النثرية على السواء!
فلماذا يمارس كتابتها سراً ويلعنها علناً؟
يقول في حواره مع مجلة النص الجديد: «سأوضح لكم أن بنائي اللغوي وبنائي الشعري يتنافي مع قصيدة النثر.. ولكن لا يمكنني نفي نمط قصيدة النثر».
ويقول في حوار آخر مع ميرزا الخويلدي: «أنا إنسان متناقض أمام قصيدة النثر، ولم أصل إلى موقف معين، مرةً أقرأها فتترك بي ما تتركه القصيدة العمودية باعتبارها شعراً، ومرة أقرأها ولكن لا تترك نفس الأثر فأعتبرها نثراً. (المرجع السابق)
ولعل هذا الموقف المنقسم إزاء قصيدة النثر، هو محرضه على الإجابة الحاسمة في حوارنا معه في مجلة النص الجديد عن إمكانية أن تصبح قصيدة النثر مستقبلاً للقصيدة العربية، حين أجاب: «قصيدة النثر ليست مستقبل الشعر.. ومستقبل الشعر هو قصيدة التفعيلة.. إلا أن يجيء خليل آخر وسياب آخر بخلق لغوي جديد في المستقبل!!.
ويمكننا أن نستخلص من هذه المكونات والرؤى والمواقف المتعارضة إزاء قصيدة النثر ما يلي: العلي شاعر متميز ومتمكن من التعبير الإبداعي عبر قصيدة التفعيلة عن كل الحمولات الفكرية والإنسانية والوجدانية والهموم اليومية التي ينفعل بها، ولن يجد حالته الشعرية مضطرة لاستثمار مناخات حرية النسج وعفوية التدفق التي تتيحها قصيدة النثر لشاعرها إلا في حالات استثنائية، وقد جرّب كتابتها استجابة لنزوع ذاتي يروم البحث دائماً عن ممكنات جديدة للتعبير والتشكيل، كما جربها كمثقف معنيٍ بكسر حواجز الممانعة بشكل عملي من أجل الإسهام في توسيع فضاءات الحرية والإبداع، ثم ليحتفظ بعد ذلك بمصداقيته حين يقوم بانتقادها من داخلها كشريك في إنتاج التجربة وليس كعنصر طارئ أو مضاد لها من خارجها!.. هل تجاوز العلي هذا الموقف بعد هجرته الثالثة؟.
هذا الجدال الذي عرضنا له يفسّر لنا موقف شاعرنا من قصيدة النثر، ويفسر أيضاً عدم نشره لما كتبه منها منذ عام 1967 وحتى عام 2002م؟.. ولكن، أتراه قد غير رأيه بعد أن تنسّم هواء الحرية الحقيقي في هجرته الثالثة إلى بيروت، سيما وأنه قد وافق على نشر تلك النصوص في ديوانه الصادر في عام 2009م، أم أنه ما زال ينطوي على نفس القناعات المتعارضة؟
الذي أميل إليه، أن شاعراً متألقاً في إبداع شعرية التفاعيل، ومفكراً وكاتباً مثله، تشغل جدلية التراث والحداثة -في كافة أبعادها - موقعها الحميم من تكوينه المعرفي وذائقته الفنية، لن يستطيع تجاوز ذلك التكوين صوب الإخلاص لاشتراطات كتابة قصيدة النثر المعاصرة، والتي تستدعي أولاً القدرة على غسل الذاكرة من تعالقات كثيرة ومنها «اللغة «بكل ما تحمله من سمات ودلالات وجدانية وتاريخية وممكنات موسيقية، ومن ثم الذهاب بكل طواعية ومحبة إلى معانقة فضاء النسيان!! (وهذا الرأي يحتاج إلى إيضاح في المستقبل).
خاتمة:
شكراً «لثقافية جريدة الجزيرة» الغراء على نشر هذه الحلقات، التي أعدها مقدمة فقط لقراءة نتاجات «محمد العلي» وانشغالاته، وشكراً للمتابعين والمهتمين، آملاً أن أتمكن مستقبلاً من مقاربة محاور أخرى لم أتطرق إليها هنا، وذلك خلال رحلة البيات الصيفي التي هيأنا لها أنفسنا منذ أسبوعين.