تعودت أن أصاحب الدواوين التي تهدى إليّ، وأن أكرر النظر إليها، والتمعن فيها، وأن أنشغل بإقصائها وتقريبها، والبحث فيها عن ما يبحث في الشعر عادة، عن الأليف مع الروح والذائقة، وعن المختلف المدهش، عن البسيط، وعن المركب الغامض بشفافية.. وذلك ما حدث مع ديوان الشاعرة المبدعة نادية البوشي من المدينة المنورة، الصادرعن دار المفردات 1430 ه، وهو ديوان فاتن يحتاج إلى قراءات متأنية، ونقد جاد.
تجسدُ قصيدة «فتنة البوح.. سرّ الغواية» ماهية القصيدة لدى نادية، فيما تجسد «وهجٌ حبيس»، وهي واحدة من أجمل قصائد الديوان، وضع الشاعرة المبدعة في محيط قاتل، وأفق مغلق، وظلمة، وسوء ظن:
«والظنّ سيف شهامةٍ/ يسطو على طهر البراءةِ..»
« يكاد يصلبني/ على جذعِ الضلالةِ/
كلما أدنو من الغفرانِ يزجرني الظلامُ/
فمن يعود بذلك الشفافِ/ من وهم الخطيئةِ/ لانبثاقاتِ الضياء؟!»
هذا ما يقتل الشاعرة، وهنا مأزقها، وفجيعتها:
«ولمْ يزلْ/ حزني يلوذُ بخيبتي/ مذعورة الخطواتِ في شرفاتِ أحزاني/ أفلّ مواجعي/ وتآكلُ السنواتِ يفزعني/ ويحفرني على التاريخ رمزاً لانكسارات النساء.»
فمن يدلّ متاهتها، ومن يوقف الظلمة التي تسعى لإطفاء شموسها، ومن يعيد ملامحها، من ينصف قصيدتها، بياضها، ونقاء سريرتها:
«ومن يعيدُ ملامحي/ من غيهب التابوت والوأد الخفيّ؟
وفي يدي من ناصعِ التاريخِ نبراسٌ جليّ
ومن يعيدُ نفائسي/ بلْ من يفيقُ على صلاتي
حينما يتآزرُ الموتانِ/ صمتي واصطخابُ اللؤمِ في صخبِ الغثاء؟!»
بوحٌ مؤلم، يجسد واقعاً مؤلماً، لكنه يقدم شاعرة بارعة ملهمة.
أما في قصيدة « بائعة الحناء «، والقصائد القصيرة الأخرى، فتمسك نادية بقيمة الشعر الحديث في رصد اليومي، وفي طرح الأسئلة - وهي تعنى بالأسئلة، وهذا مهم في الشعر، حتى أنها تفرد لها قصيدة خاصة- وفي التكثيف:
« في ظلّ المئذنةِ اتكأتْ/ غمستْ أطرافَ أمانيها في قولِ الله.
...........................................
من غائرِ حزنٍ أنهكها سألتْ: من أين تجيء بضحكتِها؟!
فتهاوتْ.. أضغاثَ حياةْ!!»
وذلك يتكرر في قصيدة «وجوه»، فهنالك وجوهٌ ناصعة، ووجوهٌ شوهاء تنفث عتمتها، وسؤالٌ للشعر:
«وبين الوجوه ملامحُ/ مكتظةٌ بالمتاهاتِ/ ترهقها حيرةٌ../ لا تملّ السؤالَ: ترى.. أين وجه الفرحْ؟!».
الديوان يضم أكثر من ثلاثين قصيدة، وهو عدد كبير، لكنك لا تشعر بذلك عند تصفحه. ولك أن تسألها، تسأل نادية البوشي: ما الشعر لديك؟! فتجيبك بأجمل إجابة في قصيدة «خطيئة الشعراء»:
«ألأنهُ: مجدافُنا في لجّةِ الحزنِ الرجيمِ/ حريقُنا/ ورحيقنا/ دربُ الغواياتِ الطهورِ/
خطيئةُ الطهرِ المبينْ».
أظنّ أنّ هذه هي فتنة البوح، وأن هذا من أجمل ما سمعت في تعريف الشعر مع أن الشعر لا يعرّف؟! وهذا البث ليس الجميل الوحيد لدى شاعرتنا، فالديوان مليء بهذه الومضات، وعلى العين المدرّبة البحث عنها في ثنايا التبرير لهذه الخطيئة.. خطيئة الشعر، لذلك نجدنا نردد معها ونحن نودعها:
«وما أجرْتني/ يا أيها النبضُ الحبيبُ/ ما أجَرْتْ».
mjharbi@hotmail.com