الجزيرة - الرياض
امتلكت جائزة خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة، منذ إعلان إنشائها قبل 3 سنوات, مقومات كثيرة، منحتها القدرة على تحقيق أهدافها في تنشيط حركة الترجمة من وإلى اللغة العربية، واستثمار هذا النشاط في تهيئة المناخ لحوار فاعل بين الحضارات، وتعزيز التواصل المعرفي بين الدول والشعوب. وتمثل رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - راعي هذه الجائزة - المنطلق الثري والقوة الدافعة لما تحقق للجائزة من نجاح خلال الدورات الثلاث الماضية, الذي يتجلى في استضافة منظمة اليونسكو لحفل تسليمها للفائزين بها في دورتها الثالثة، في إعلان واضح وصريح لتقدير المجتمع الدولي للجائزة، وتفاعله مع رؤية خادم الحرمين الشريفين لمد جسور التواصل والتعاون بين أعضاء الأسرة الإنسانية، التي تمثل الجائزة إحدى آليات تحقيقها. ومع الاحتفال بتكريم الفائزين بالجائزة في بيت الثقافات العالمي بمقر منظمة اليونسكو نتوقف للتأمل في أبعاد رؤية خادم الحرمين الشريفين، التي صنعت نجاح هذا المشروع الثقافي الفريد، ووضعته في صدارة المشروعات والجوائز العالمية المعنية بالترجمة والثقافة عمومًا. ولعل أبرز أبعاد هذه الرؤية هو استشعار راعي الجائزة - يحفظه الله - حاجة العالم إلى تعزيز آليات التواصل المعرفي بين دوله وشعوبه، باعتبار هذا التواصل ضرورة للتفاهم والتعايش السلمي والتعاون، فيما يعود بالنفع على الإنسان أينما كان, ولاسيما بعدما تعالت في الأفق دعاوى الصراع الحضاري, واستغلال أصحاب هذه الدعاوى لبعض الأحداث والنزاعات السياسية في الترويج لها. لا شك أن هناك الكثير من الشواهد والوقائع التي تؤكد حاجة العالم إلى هذا التواصل, لكن اختيار الآليات المناسبة لتحقيقه تظل هي المعضلة، التي تمثل جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة وسيلة لتجاوزها، عن طريق استثمار الترجمة في تجاوز حواجز اللغة، التي تعدُّ أبرز معوقات التواصل الإنساني. وتكشف موافقة خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - على إنشاء هذه الجائزة عن قراءته الواعية لمسيرة تطوُّر الحضارة الإنسانية وتقدمها, ودور الترجمة في تحقيق هذا التطور في كثير من المراحل التاريخية، وخير مثال على ذلك اعترافات المنصفين من أبناء المجتمعات الغربية بإسهامات العلماء العرب والمسلمين، وفضلهم في نهضة أوروبا وتجاوزها لمرحلة الظلام، التي عاشت بها في العصور الوسطى، في إطار وعي أشمل بأن اختلاف اللغة لا يجب أن يكون معوقًا للتعاون بين أبناء الحضارات، أو حائلاً دون الإفادة من النتاج العلمي والفكري للعلماء والمفكرين فيما يحقق خير الإنسان ومستقبلا أفضل للأجيال القادمة، يؤكد ذلك تنوع مجالات الجائزة بين العلوم الإنسانية والتطبيقية. وتجسد الجائزة بُعدًا آخر في رؤية الملك عبد الله - يحفظه الله - لمد جسور التواصل وتعزيز آليات الحوار الحضاري بين الدول والشعوب وأتباع الأديان السماوية، وهو الإعلاء من شأن النخب العلمية والثقافية والفكرية، من الأكاديميين والمفكرين والمبدعين في تحقيق التواصل المنشود, ليس في إطار سياسات الهيئات الحكومية القطرية, بل على المستوى الفردي والمؤسسات العلمية والثقافية غير الحكومية، ولا يقتصر ذلك على ما تتيحه الجائزة من فرص التنافس عليها للأفراد والمؤسسات الأهلية فقط, بل يمتد إلى القارئ والباحث وطالب العلم، الذي يتاح له من خلال الأعمال المترجمة الاطلاع على ثقافة الآخر وحضارته وفكره وإبداعه, ولا يخفى على أحد حجم الفائدة التي تعود على طلاب الجامعات العربية من اطلاعهم على المراجع العلمية المتخصصة المترجمة إلى العربية, وما يمكن أن تحققه الأعمال المترجمة عن الإسلام والحضارة الإسلامية من تصحيح الصورة المغلوطة التي تشكلت في أذهان كثير من غير المسلمين، ولاسيما في المجتمعات الغربية نتيجة لممارسات إعلامية غير سوية, تستفيد من نقص الفرص المتاحة أمام القارئ في هذه المجتمعات ليتعرف ذاتيًا على الإسلام والمسلمين. ويحيلنا ذلك إلى بُعد آخر في رؤية خادم الحرمين الشريفين, الذي تمثل جائزته العالمية للترجمة أحد مفاصلها, وهو أهمية المعرفة في تحقيق التقارب والتفاهم بين الدول والشعوب، والاجتماع حول القواسم المشتركة التي تدعم التعاون فيما بينها، وهو أمر يتفق عليه كل علماء الاجتماع والمختصين في دراسة الاتصال؛ حيث إنَّ نقص المعرفة بالخصائص الثقافية والمكونات المميزة لكل حضارة يؤثر سلبًا في فاعلية التواصل وموضوعية الحوار, وقدرته على تحقيق أهدافه. وتفردت الجائزة في التعبير عن بُعد بالغ الأهمية في الرؤية التي انطلقت منها، يتمثل في احترام التنوع الثقافي والاختلاف الفكري، وخصوصية الهوية الثقافية والحضارية للدول والمجتمعات، باعتبار هذا التنوع سنة كونية وطبيعة فطرية, ترتبط باختلاف الأديان، والتقاليد، وتاريخ نشأة وتطور المجتمعات، وعامل ثراء وإثراء لجهود التعاون الدولي، وليس دافعًا للفرقة أو النزاع أو تهميش الآخر والاستعلاء عليه. ويؤكد ذلك التفرد في رؤية الملك عبد الله - يحفظه الله - لأهمية التنوع الثقافي انفتاح الجائزة على كل الثقافات واللغات - دون تهميش لغة لحساب لغة الآخر - واعتبار الفيصل في ذلك هو قيمة العمل المترجم، وما يضيفه للعلم والمعرفة، وليس أدل على ذلك من تنوع الأعمال التي تنافست على الجائزة في دوراتها الثلاث، وكذلك الفائزة بها من اللغات كافة دون استثناء. وتتناغم أبعاد رؤية خادم الحرمين الشريفين للتواصل المعرفي والثقافي والحوار الحضاري في التوازن البديع في مجالات منح جائزته العالمية للترجمة، التي تجمع بين العلوم الإنسانية والتطبيقية، وتعنى بالفكر والأدب والفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد، بدرجة العناية بعلوم الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء نفسها، وغيرها من العلوم الطبيعية والتجريبية، وذلك باعتبار أن العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أشبه بجناحين لطائر لا يستطيع التحليق بأحدهما فقط, وأن أهمية العلوم الطبيعية وارتباطها بالتنمية والتطور لا تتعارض مع أهمية الارتقاء بوعي الإنسان باعتباره غاية كل تنمية وتطور, والمحرك الحقيقي لها, وأن ضبط العلم بالأخلاق الرفيعة هو الضمان الحقيقي لعدم انحراف التطبيقات العلمية باتجاه يمثل تهديدًا لأمن وسلامة الإنسان, وبدرجة التوازن نفسها في اهتمام الجائزة بين العلوم الإنسانية والطبيعية تتسم الرؤية التي تنطلق منها بالحرص على الاستفادة من النتاج الفكري والعلمي للآخر, والسعي إلى إفادته والتأكيد على أن الحضارة العربية الإسلامية لديها ما تقدمه, وأن الثقافة العربية الإسلامية قادرة على استيعاب كل المستجدات, بدليل منح الجائزة للأعمال المميزة المترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية، وكذلك الأعمال المترجمة من اللغة العربية إلى هذه اللغات. وتكتمل الرؤية التي قادت الجائزة لتحقيق هذا النجاح الكبير في سنوات قليلة بارتباطها بمبادرات عملية وجهود ملموسة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للتقارب بين الدول والشعوب, وفي مقدمتها مبادرته الكريمة للحوار بين الحضارات وأتباع الأديان, ودعوته للمؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب.. ومثل هذا الارتباط بين القول والعمل بين دعوة خادم الحرمين الشريفين للحوار الحضاري، ورعايته للجائزة، وعطاءاته في مجال الإغاثة الإنسانية، وغيرها من الجهود التي يصعب حصرها، والتي تفسر المكانة الرفيعة التي يحظى بها راعي الجائزة على المستوى العربي والإقليمي والدولي, وتأييد المجتمع الدولي لكل مبادراته وجهوده لخدمة الإنسانية, والنجاح الكبير لجائزته العالمية للترجمة. واجتماع هذه الأبعاد - في الرؤية التي انطلقت منها الجائزة - يشكِّل رسالة واضحة من بلاد الحرمين وقيادتها الرشيدة بموقف الإسلام في التعامل مع الآخر, وتشجيعه للحوار الإيجابي والتعاون في كل أبواب الخير، بعيدًا عن دعاوى الهيمنة، أو السيطرة، أو محاولات طمس الهوية المميزة للحضارات والأديان - تحت شعارات العولمة - أو سيادة نموذج حضاري على حضارات وثقافات أخرى.