وجف قلبي من جمر فجيعة ذلك الرجل الذي لم أره في حياتي ولكن لم يكن ليخطئه بصر أي ممن يستطيعون قراءة النور في عتمة سطور الدفاتر والكتب أو يطيقون مكابدة ضوء الحبر....
....كأنني خرجت من بيتي صباحاً ودخلت بمجرد أن طالعت خبر الفاجعة في صحف ذلك اليوم قطعاً من الليل المبهم, أو كأن العربة انحرفت بي عن الطريق إلى عملي وزجت بي في نفق مغلق من جهتيه. وكما نتمنى فيما يمر بنا من مُلامات حارقة وخاصة في حالة فجيعة الفقد الفادحة لروح شابة غالية أن لا يكون الأمر إلا كابوساً أو حلماً مفزعاً ونود من الأعماق أن نصحو منه على صفو الحياة اليومية العادي فقد اعتراني ذلك الشعور وصرت أتمسك به بالصد عن قراءة الصحف إلى أن تحدثت مع الزميل الدكتور عبدالله مناع والزميلة أ. ميسون أبوبكر. فلاحول ولا قوة إلا بالله.
ظللت بعد ذلك أردد بجوارحي في كل صلاة ومابينها «إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أبتهل إليك أن تلهم والديه وأهله الثبات»,» اللهم استقبل إباء بملائكة رحمتك وضيفه في روض رضاك»، بينما ظلت تلف حواسي حالة من الانخطاف ليس لها اسم. ولوهلة طويلة ثقيلة امتدت عدة أيام لم أعرف كيف أؤدي واجب العزاء.
تجمدت الحروف على المفاتيح
أظلمت الشاشة وأعتمت شبكيتي
شعرت أن فجاءة الرحيل تمحو بصمات أصابعي وتفرغ حنجرتي من الهواء.
رأيت ذلك الشاب مرة واحدة ينوب عن أبيه في التكريم عام 2008م وتبادلنا تحية راكضة ولكني لم أعرف أنها ستأتي لحظة تسرج ذلك الوجه الوضيء في وجداني بهذا الشكل الحارق.
لم أعد أجد في عروقي الطاقة ولا في نفسي الجرأة للحديث أو الكتابة.
فأصعب الكلمات مراساً وأشدها نفوراً واستكباراً تلك الكلمات التي نريد أن ننسل خيطاً من خيوطها الشرسة لنستر بها طعنة الموت عندما تتعرى أرواحنا أمام هيبة الحق بين يدي الله.
بعد عدة معالجات لإقفال فمي وماران على لغتي من شلل الكلام استطعت بشق الأنفس أن أستجمع شيئاً من شجاعة الإيمان لأتحدث مع الشيخ عبدالمقصود خوجة.
ويشهد الله أن ما لمسته من رباطة جأش الرجل في ريعان لوعته وماشممته من عبير تماسكه في ضراوة فقده وماسمعته من كريم قوله واحتسابه جعلني أستحي في ذلك الموقف منه ومن إباء ومني.
شعرت أن إباء وإن كان قد استجاب لنداء ربه فقد ترك لعبدالمقصود خوجة كل المعاني السامقة التي يرمز لها اسمه بما فيها السمو في الحزن.
وشعرت أنني أفهم بعمق أكثر لماذا اختار عبدالمقصود خوجة «باب التكريم» تكريم الأدباء والعلماء وتكريم الفكر والعلم والثقافة ليكتب على ذلك الباب الشامخ اسمه. فوحده من يقرأ سفر الكرامة في تحرير البشر من الانكسارات بأنواعها يعرف كيف يبقى ممسكاً بالراية حتى في اللحظة التي تقصم الظهر وإن ادلهم النهار وابيضت عيون الليل. إذ إن الكرام وحدهم يوضئون جراحهم بكوثر الصبر ولايخلفون ماعاهدوا النفس عليه من شيم الكرامة والإباء ومن عزة الإيمان.
عزاء حار أخص به السيدة الصابرة والدته ولجميع أخواته وإخوانه وأسرته ولكل محبيه ولا نقول إلا إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإني أسأل الله الجبار في هذه اللحظة التي لا أشك أنه يشارك عبدالمقصود خوجة فيها جميع من جمع قلوبهم على جذوة الفكر أن يجبر فقده ويجعل له في إباء ذخراً عنده في اليوم الآخر عند ملاقاة وجه رب كريم عظيم وأن يبقى اسم ذلك الشاب ذكرى مضيئة ورمزاً للبر والإباء في أسرته ووطنه.
مقطع من ديواني مرثية الماء (انتحلته من حزن أمي في فقدها لأخي الشاب)
الليلة ما بعد الألف
توسدُ رأسَه
ريش الغيوم
تمدُّ أخمص قدميه على
عشبِ البحرِ
بين عظمةِ ترقوِتها
واستدارةِ حوضِها
تفرشُ له
عرشاً من ديباجِ العشقِ
وترشفُ رحيق الحزن
في صحةِ العريسِ
وحدها
بانتظارِ صحوه
من نومته الأبديةِ
و... محمد....
محمد
بين الأفقِ وبين المضيقِ
بين المرجِ وبين الجدارِ
بين حضُنٍ ولحدٍ
محمد
فرح بحرية الخلد
ينطلق.......
Fowziyah@maktoob.com