من حين لآخر يخرج مجتمعنا بشيء جديد وغريب من التصرف الفردي؛ وسرعان ما يعمم هذا التصرف؛ ليكون مباراة قوية فيها أطراف متنافسة تلهث خلف الجديد.
جاءت الزراعة للكيلومترات من الأراضي ......
....استمرت ثم وقفت؛ وبقيت المزارع واقفة أشجارها التي تلعب بها الرياح لتموت واقفة ورؤوسها خانعة، وكأنها تندب حظاً جاء بها لهذه الصحراء البعيدة عن الأنهار؛ ولتلعن اليد التي غرستها للظل أو الثمرة ثم خانتها.
جاءت موضة مفاجئة؛ إذ خرجت وثائق كثيرة من صناديق الحديد في القرى؛ واجتهد المجتهدون في جمع الوثائق أو شرائها بمبالغ قد تصل للملايين؛ وشغل الناس بها؛ حتى لو كانت وثيقة تخص قسمة تركة عجوز ماتت متردية من ظهر حمارها؛ فصار التجسس للبحث عن من عنده وثيقة مهنة يجيدها من عرفوا سر المهنة؛ وصار الباحثون كمن أصابه السعار أو الغلاث ليجمع أكبر عدد أو على الأقل ليصوّره ويحتفظ بصورة منه؛ بل بعضهم اشترى آلة تصوير وصار يحملها في سيارته. وأخيراً بقيت محفوظة كما كانت قبل ذلك؛ لكن حفظها الآن يختلف عن ما يسمونه «سحّاره». ونتيجة لتلك الوثائق تولّدت موضة أخرى؛ وهي كتب الأنساب والقبائل والعائلات والأفراد؛ فامتلأت أرفف المكتبات بالغث والسمين والصحيح والمزيّف؛ وصار كلٌ يؤلِّف عن جده وقريته وحتى عن جدته التي كانت رمزاً للصدقات والتقوى والعطف على الفقراء!!! وانتهت تلك الموضة بسلام أيضاً..
وجاءت موضة جديدة وهي تمجيد الأثرياء الجدد؛ وهم أثرياء جاء بهم القدر من بيوت فقيرة ومغمورة ليصبح لقب الواحد منهم «الشيخ فلان» وهو لقب حديث كحداثة سن أحدهم؛ فصارت سوقاً رابحة لشعراء النبط ليكسبوا من مال لم يتعب فيه الشيخ ولم يرثه من بيت غنى شهير؛ بل جاء نزوة زمنية مفاجئة؛ وزاد الشطح عندهم؛ ليستأجروا قنوات العامة الشعبية ويبتسموا للكاميرا، وكأنّ أمامها داهية من دهاة العرب أو سيد من ساداتها أيام أن كان للعرب بيوتات امتازت بالريادة والسيادة؛ وبزرت مصاحبة لهذا الطلب ما يسمّى بشعر القلطة؛ وتنج عنه أن جاءت أسماء شعرية تريد التكسب من تجار الغفلة؛ واستمرت لليوم.
وجاءت بعد ذلك وجوه جديدة أنهكها الترحال في العمل في القطاع العام؛ ليحالوا على التقاعد؛ بعد أن رزقهم الرازق برزق؛ المهم أنهم يمتلكون رصيداً من الثروة؛ وقد أشبعوا رغباتهم في المراهقة والشباب وفي سن الرشد؛ هؤلاء يقولون «سنموت؛ فلا بد أن نبقي ذكراً للأجيال. فماذا نفعل؟ وقد وسوس لهم موسوس ماهر يريد أن يبتزّهم مثلما ابتز الشعراء الشعبيون تجار الغفلة؛ فقالوا لهم: اكتبوا عن سيركم المجيدة وأمجادكم العتيدة؛ وانخرطوا في ذكريات التاريخ؛ ودوروا في فلك المؤرخين؛ ألم تروا أن ابن خلدون قد خلّدته مقدمته؛ وأن ابن الأثير وياقوت الحموي والبكري وغيرهم لا زالت كتبهم يتناقلها الباحثون في التاريخ والأدب والبلدانيات؛ انهجوا نهج التأليف اللطيف؛ وهذا سيبقى لكم ذكراً وينسب لكم فكراً؟! ولو دققت جيداً في هؤلاء المؤرخين والكتّاب لسير حياتهم فلن تجد في معجم سيرة حياته أنه كتب مقالة قبل عشر سنوات؛ أو أنه رأس قسماً في صحيفة؛ أو أنه نال شرف رئاسة تحرير صحيفة أو مجلة؛ بل الحق أنه جاء نبتة مفاجئة يعجز القارئ له أن يجد لتلك النبتة جذوراً في الإعلام أو الثقافة؛ أو حتى صياغة مقالة واحدة؛ فكيف برز أولئك فجأة؟ نجدهم فعلاً يطبقون «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» ولعل مفردة «العرقه» بلهجة أهل نجد تعني مقابل العرق؛ فهؤلاء يضخون المال من أجل تأليف كتاب بالنيابة عنهم؛ سواء أكان في سيرته الذاتية أو تاريخ قريته التي عاش فيها طفولة الفقر؛ أو تاريخ حركة اجتماعية في قريته التي نشأت طفولته فيها؛ فيأتي الكتاب صورة لهاجسه الاجتماعي لا للحقيقة ... استمرت هذه الظاهرة كغيرها؛ لكنها لازالت لأنّ المال يطوّع الرقاب ويرقق القلوب ويرغمها على الكد؛ ولن يعجزوا في أن يجدوا من يخدمهم حتى لو استقدموه من بلاد الواق واق.
والآن الموضة الجديدة أن يخرج الطير المسافر من المدينة المزدحمة إلى قرية هادئة ليكوّن هناك نخيلات وبئر؛ ولا بد أن يكون مصاحباً لتلك الحركة قطيع من الأغنام أعدّها للكرم الحاتمي الذي جاء فجأة لذلك الرجل أو تلك الأسرة التي لم يعرف عنها كرم؛ وتستمر هذه الظاهرة إلى اليوم؛ فهل تستمر في حراكها أم يفقرون ويعودون إلى بيوتهم المستأجرة في المدن ويعرفون أحجامهم الطبيعية بعد أن جمعوا ما جمعوا من كدح ذهب في نخيلات وبيت شعبي مزيّف بناه لهم عمال قادمون من الشرق؟ وهم يرددون قول الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلُّهم
فالجودُ مفقر والإقدامُ قَتّالُ
حراك متغيّر لمجتمع يتغيّر مثلما تتغيّر رياح الخماسين في كل عام؛ وبالرغم من أنه حراك ينبئ عن حياة وتناغم؛ إلا أنه تناغم بدائي لا يعطي قاعدة ثابتة لشيء مستقبلي؛ أي أنه سرعان ما يضمحل ولا يبقى؛ لأنّ ما بُني على عجلة من الأمر دون تأسيس واستقراء لنتائجه وأهدافه سوف لن يبقى فعلاً. والله الباقي.
فاكس 2372911
Abo_hamra@hotmail.com