قررت شركتا «أرامكو» السعودية و»داو كيميكال» الأمريكية رسمياً نقل موقع مجمع البتروكيماويات المشترك الذي خطط لإنشائه في «رأس تنورة» إلى مدينة الجبيل لأسباب فنية، إنشائية، ومالية.
صعوبة تأهيل الموقع، التكلفة الباهظة لتجهيزات البنية التحتية، إضافة إلى تأجيل مشروع تطوير معمل الغاز القريب من الموقع المقترح ساعد في اختيار الجبيل كموقع بديل لرأس تنورة.
قرار نقل مجمع البتروكيماويات إلى الجبيل يحقق الفائدة القصوى لشركتي «أرامكو السعودية» و»داوكيميكال» ويوفر عليهما الكثير من نفقات التجهيزات الأساسية، وتكلفة المشروع التي قدرت بعشرين مليار دولار. تعتبر مدينة الجبيل الصناعية، من الناحية الفنية والاقتصادية، المدينة الأمثل لاستيعاب مصانع البتروكيماويات العالمية، نظراً لتمتعها بتجهيزات البنية التحتية، توفر إمدادات اللقيم، الطاقة، الموانئ المتخصصة، والإدارة المحترفة المتمثلة بالهيئة الملكية للجبيل وينبع. إلا أن للمدن الصناعية طاقة استيعابية محددة ترتبط في الغالب بالبيئة المحيطة، وقدرتها على تحمل مخرجات الصناعة الخطرة المؤثرة على صحة الإنسان وسلامة البيئة. مدينة الجبيل الصناعية ربما تعدت مرحلة الاكتفاء من الصناعات البتروكيماوية التي يمكن للبيئة المحيطة التعايش معها بأقل الأضرار. الأمر لا يرتبط بالقدرة على تحمل ملوثات الصناعة فحسب، بل يتجاوزه إلى مخاطر الأمن والسلامة الناتجة عن تسرب الغازات القاتلة، أو تعرض أحد المصانع للخطر ما يجعل المصانع الأخرى عرضة للمخاطر نفسها، وهو أمر لا يمكن تصور نتائجه وآثاره على سكان مدينة الجبيل. تعتبر الصناعات البتروكيماوية من أخطر الصناعات المضرة بالبيئة وصحة الإنسان، الأمر الذي جعلها ضمن الصناعات غير المرغوب فيها في المجتمعات الغربية، ما دفع بها إلى المجتمعات الناشئة (النامية) التي لم تصل بعد إلى مرحلة النضج والمسؤولية فيما يتعلق بصحة الإنسان وسلامة البيئة، وخطط الطوارئ الوطنية وجدت الدول الغربية دولاً حاضنة لمصانعها الخطرة تحقق لها الربحية، وتوفر لها المنتجات المطلوبة، وتبعدها عن القضايا القانونية ذات العلاقة بالبيئة وصحة الإنسان، دون أن تتكبد مصاريف إضافية يمكن أن تندرج ضمن برامج «المسؤولية الاجتماعية» التي تخصص لها ما لا يقل عن 15 في المائة من أرباحها السنوية.«سبق السيف العذل» وما كان تجاوزه يسيراً في خطط البناء الأولى، أصبح أمراً تغييره مستحيلاً في الوقت الحالي، وهو ما يعني وجوب التعايش معه بما يحتويه من مخاطر، إلا أن القبول بالتعايش يُفترض ألا يقودنا إلى القبول بمزيد من الأخطار، تحت شعار التنمية الصناعية، ومن خلال التوسع غير المتناسب مع سلامة البيئة، صحة الإنسان، وأمن الوطن. التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان والبيئة أولاً، ومن ثم تنطلق إلى مساحات رحبة من الصناعات الإنتاجية صديقة البيئة التي تحقق لنا التطور، وللاقتصاد النمو، وللإنسان السلامة، وللبيئة الرعاية التي أوجبها الله علينا.أعتقد أن الاقتناع بعدم قدرة مدينة الجبيل الصناعية على تحمل مزيد من المشروعات البتروكيماوية يمثل الخطوة الأولى في التصحيح الإيجابي. التوسع في الصناعات الأخرى صديقة البيئة يعطي الجبيل توازناً مطلوباً، ويحقق الأهداف التنموية الطموحة. هناك صناعات كثيرة يحتاجها الاقتصاد السعودي، لا تقل أهمية عن الصناعات البتروكيماوية، يمكن تبنيها في الجبيل، وجعلها نواة لصناعات أخرى وسبباً من أسباب التوازن الصناعي والبيئي أيضاً.أما الخطوة الأهم فهي تبني أنظمة الرقابة، وخطط الطوارئ العالمية، وتشديد القوانين البيئية، والتركيز على صحة الإنسان، وحمايته من الأمراض المستعصية التي تتسبب بها ملوثات الصناعات الخطرة، وتفعيل برامج «المسؤولية الاجتماعية» وتطبيقها على الشركات القائمة، وجعلها ضمن شروط إصدار تصاريح إنشاء المصانع الجديدة في مدينة الجبيل بشكل خاص، وأنظمة إنشاء الشركات بشكل عام.أرامكو السعودية تستثمر ضمن شراكاتها مع شركتي «توتال» و»داوكيميكال» العالميتين أكثر من 30 مليار دولار (112 مليار ريال) في مشروعات بتروكيماوية نفطية، وهي المشروعات الأخطر الضارة بالبيئة وصحة الإنسان. لو طرح مشروعا «مصفاة الجبيل، أرامكو توتال»، و»أرامكو داوكيميكال» في أي من الدول الأوربية لما سُمح بإقامته على بعد كيلومترات قليلة من المدينة السكنية، على أساس أن مصافي النفط، وصناعة البتروكيماويات تعتبر من أخطر المصانع على صحة الإنسان وسلامة البيئة، لذا تَنُص القوانين والأنظمة الغربية على إبعاد مثل تلك المصانع عن المناطق السكنية، وتفرض عليها المساهمة الفاعلة في خدمة المجتمعات القريبة منها على وجه الخصوص.
مشروعا أرامكو توتال، و»أرامكو داوكيميكال» ينبغي أن ينتج عنهما مشروعات عدة لخدمة المجتمع، وعلى رأسها إعادة تأهيل، تخطيط وتنظيم مدينة الجبيل وفق ما يجري في مدينة الجبيل الصناعية، وبناء المدارس، المستشفيات، المعاهد التقنية، الحدائق العامة، قاعات المحاضرات. الشركات الأوربية معتادة على مثل هذه المساهمات الخدمية، بل ترصد لها جزءاً لا يستهان به من ميزانياتها، وأرباحها السنوية، وهي لن تنقل مثل هذه الثقافة للمجتمع السعودي ما لم يُطلب منها ذلك، وطالما أنها الشريك الرئيس لشركة أرامكو السعودية فينبغي أن تصدر المبادرة من الشريك السعودي أولاً من خلال مجلس الإدارة، وأن يُدعم هذا بالأنظمة والقوانين التي تجعل من المساهمات الاجتماعية أمراً واجباً لا اختيارياً. مدينة الجبيل في حاجة ماسة إلى إنجاز مشروع الصرف الصحي الذي يحتاج إلى أرض بمساحة 500 ألف متر وهي متاحة ضمن محجوزات أرامكو، وتحتاج إلى شاطئها الشرقي الذي تمتلك أرامكو جزءاً منه، ما يعني قدرة أرامكو على حل أهم مشكلتين تواجههما المدينة، على وجه السرعة، إضافة إلى مشروعات التنموية الأخرى، فالأقربون أولى بالمعروف، ومشروعاها الجديدان يجعلانها ملزمة وطنياً، قانونياً، وأخلاقياً بتقديم مشروعات تنموية، ضمن برامج المسؤولية الاجتماعية، لمدينة الجبيل.
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM