في كل مرة كان يتفنن في اختلاق طريقة تجعلنا نكره الدرس والكلمات والكتابة، بصراحة كان أستاذا غبياً ومملا جداً، وفي كل مرة كان يطلب منا أن نكتب عن الأشياء البسيطة من حولنا، كان يريدنا أن نعبر ونكتب ونختار الكلمات التي تناسب فكرته ورؤيته، وبالطريقة التي ينظر بها للأشياء، يريدنا أن نتسلى بالكلمات ونتفق في كل شيء، في الألوان والذوق والشكل ونكرر نفس الأفكار، كنا أكثر من أربعين طالبا، وكان يريد لموضوعنا أن يكون واحدا، سطرنا واحد، وكلمتنا واحدة!.
كان يريد أن نكتب ما يجعلنا متشابهين، لا ما يشبهنا، ظل يقمع أي محاولة قد تتجاوز التقليد، الخيال عنده محرم، والصور والتشبيهات كفر، والإسقاطات جريمة، والقفز على تقليد الكلمات مصيبة نخسر بسببها عددا كبيرا من الدرجات، ولأنه غبي بامتياز، فقد كان يحاسبنا على كشفنا لأفكارنا، لا على فن الكتابة.
وفي المرات النادرة التي يريدنا أن نظهر قدرتنا الإبداعية، ونمارس «حرية التعبير»، كان يقف بفخر في منتصف الفصل، ليخبرنا أن موضوع اليوم «حر»، ويمكن لنا أن نكتب ما نريد، وحول أي موضوع يخطر على خيالنا المحاصر، شرط أن نلتزم بقائمة شروط يستغرق سردها نصف زمن الحصة الدراسية، وأصبحنا نحفظ ونردد دون أن نشعر تعليماته وتوجيهاته السديدة، التي لم تبقِ لنا إلا الحديث عن حديقة المدرسة الجافة، وشارعنا المتهالك.. لكنه أيضا يريدنا أن نكذب، و نجمل هذه الأشياء البسيطة. أو نكتب عن الصداقة والأخلاق الحميدة يفشل في كل مرة أن يظهرها لنا.
حرية التعبير في درس التعبير الأول، لو مارسها الأستاذ لإتاحة للمدرسة معرفة الطلاب وتوجهاتهم، معرفة الإرهابي والإنساني»، ولاكتشف المدير والإداريين وحتى وحراسها، شخصيات الطلاب وتوجهاتهم المنحرفة إلى اليمين أو الشمال، وعرف الضال من المضل، المؤمن من المتطرف، أصحاب الأفكار النتنة، والإنسانية، الصاحي من النائم، الناقم من المحب، من يسرق الكلمات ومن يخلقها، واستطاع أن يتعرف على شخصياتنا أكثر، وعيوبنا، ويحتفظ بوثائق مكتوبة تتيح له فهم وتحليل جو المدرسة، لكنه فضل البقاء جاهلا بالطلاب واتجاهاتهم وأفكارهم الإنسانية والإجرامية..!
إلا أن حرية التعبير ظلت منحورة، والأستاذ يتفنن في كل مرة بزراعة الخوف لدينا من الكتابة، لذا بقينا نكتب عن الإجازة الصيفية ونمتدح فناء المدرسة الترابي القذر، ومعمل العلوم الذي لم يكن سوى مطبخ في مبنى مستأجر، والجو الربيعي الذي لا يتغير طوال فصول السنة.
ولو فكر مرة واحدة، لسمح لنا أن نكتب ما نريد ونعبر عن ما نريد، ووجد في حرية التعبير «فوضى جميلة» يمكنها تعرية الأفكار وفضحها وفرزها وتصحيحها، حتى لو ارتفع «الصخب» لبعض الوقت..!
إلى لقاء