لا أذكر أن أحداً هاتفني من خارج الرياض وأنا فيها إلا وسألني عن الجو.. جو الرياض.. ثم ألحّ في السؤال عن الزحمة.
وإذا تجاوزت الإجابات التقليدية المعتادة، في المهاتفات الجوالية المنقادة..
.. التي لا يفسدها إلا الإكثار من تبادل عبارات مكرورة مجرورة مثل: (كيف الحال.. طاب الحال)، إلى أن يتجرأ أحد الطرفين المتقاذفين بها، فيكسر حالة الجمود على الخط الساخن بينهما.. إذا فعلت ذلك، وها أنذا أفعل، فإني أقول: إني وجدت جو الرياض هذه المرة أكثر من حار في فصل غير حار، ولقيته يغسل غبرة بعد غبرة، بصحوة تلو صحوة، ورأيته يغص بالسيارات، ويَشرق بالناس. لقد وجدت الرياض غير الرياض قبل عام على أقل تقدير.
* إن حرارة جو المدن وصحوها وصحوتها النهضوية يمكن أن يقاس كل ذلك بحراكها الاجتماعي، وبنشاطها الاقتصادي والثقافي، وبما تحرزه من تقدم ونمو، وبما توفره لساكنيها وزوارها من مشارب معرفية وحضارية، تعكس طموحها وقدرتها على اجتياز الصعب في حياتها، وجسارتها في اقتحام الحواجز أمامها، بهدف الوصول إلى العالمية. إن المدن التي لا تثور على ذاتها باستمرار، وتنفض الغبار عن وجهها، سوف تظل حبيسة أمسها، ورهينة ماضيها، ومريضة بداء الكساح الذي يحول بينها وبين أن تتقدم خطوة إلى الأمام.
* الرياض تسجل كل يوم خطوة جديدة إلى الأمام، وتثبت أنها قادرة على التغيير والتطوير، رغم العوائق التي تتمترس بالعادات، وتتلبس بالدين، وتعترض طريق التحديث. ما نشهده في عيون مسؤولي الرياض وأهلها، من عزم وحزم وإصرار على تحديثها وتطويرها، يفوق الذي نراه في ميادينها وشوارعها، من أشغال تؤسس لبنية حضارية تستوعب كل شيء، حتى قطار المستقبل الذي لم تعرفه المدن السعودية بعد.
* أقرب وأجمل قياس للرياض التي نحلم بها جميلة وكبيرة بين عواصم العالم هو العامل الثقافي الذي تتنفس من خلاله العاصمة السعودية. فهذا عرس جديد للجنادرية في نسخته الخامسة والعشرين، وهو مهرجان ثقافي فريد، خرج من عباءة الحرس الوطني، وظل ينمو ويخطو ويعلو، تحت أنظار (عبدالله بن عبدالعزيز)، رئيس الحرس الوطني وولي العهد، ثم الملك المظفر، وفي إطار الحرس الوطني، المؤسسة التي مزجت التربية العسكرية بثقافة وحضارة وتراث العسكريين، في وطنهم الكبير، وبين شعبهم العظيم.
* يا لها من حركة فكرية وثقافية دائبة، ونشاط اجتماعي منقطع النظير، تعيشه الرياض من جديد، بعد أن عاشت تظاهرة ثقافية للكتاب، واكبت وصاحبت المعرض الدولي الذي يحمل اسمها، واستوعبت آلاف المثقفين من أنحاء المملكة وخارجها كافة، ومئات آلاف الرواد الذين لاحقوا سوق الكتاب، بيعاً وشراءً ونشراً.. ويحسب للرياض بكل من فيها هذا العام بالذات ما وفرته من جو ثقافي ومعرفي هادئ وجيد في هذه التظاهرة الحضارية، التي لم يعكر صفوها إلا فلتات بعض الأوصياء داخل معرض الكتاب، وهم قلة على كل حال، ولا يمثلون إلا أنفسهم، ومن الواجب الأخذ على أيديهم بقوة، حتى لا يشوهوا صورة هذا المشهد البديع مرة أخرى. إن وزارة الثقافة وهي ترعى وتنظم هذه الاحتفالية الكبيرة السنوية لتسهم بقدر كبير في نشر ثقافة الحوار والتسامح، وتفتح النوافذ المغلقة، على عالم جديد من المعرفة، بكافة ألوانها وشتى أطيافها، فليتها تفعل ذلك في أكثر من منطقة، وأكثر من مدينة.
* تبدو الرياض في أجواء كهذه.. حارة ومزدحمة؛ لأنها تتنفس ثقافة وحضارة وفكراً، ولأنها تفتح نوافذها على جهاتها الأربع، ولأنها تتحدث بكل لغات العالم، وتستقبل وتودع كل يوم أطيافاً من كل قارات العالم، فهي إذن دافئة وحارة ومزدحمة.. حرارتها هذه حميدة، وزحمتها هذه مقبولة.
* وأنت في الرياض تستطيع أن تقرأ عاصمة المملكة العربية السعودية من خلال دارة الملك عبدالعزيز مثلاً، ومكتبة الملك عبدالعزيز، أو من خلال مكتبة الملك فهد الوطنية، ومن خلال مركز الملك فيصل، أو مركز الملك فهد، والمتحف الوطني، وناديها الأدبي، ومؤسساتها الصحافية والإعلامية، وتتعرف عليها كذلك من خلال معارض الكتب، والمؤتمرات الإقليمية والدولية، والندوات التي تنظمها جامعاتها العملاقة.. في الرياض العاصمة، منارات علمية وثقافية وتراثية عديدة، تقربك من الرياض الزمان والمكان والإنسان، لكن أسرع الخطى، إذا أردت أن تصل إلى روح الرياض، لن تجدها إلا في مجلس قلبها النابض، ومهندسها البارع، ووجهها الباسم، وأميرها الواعي، سمو الأمير (سلمان بن عبدالعزيز آل سعود).
* في ساعة وعشر دقائق مع الأمير (سلمان بن عبدالعزيز)، في مجلسه في إمارة الرياض، شعرت لأول مرة بأني أقرأ تاريخ المملكة كله من جديد، وأني أتلمس ملامح وجه عاصمتها من جديد، وأني أدخل كل بيت فيها، وأني أتخيل صورتها القادمة بين عواصم عالمية كبيرة وراقية ومتطورة.
* في الرياض باختصار.. دفء وحرارة وزحمة.. عاصمة دافئة بالمشاعر العربية الأصيلة؛ لأنها مضيافة، وحارة ومزدحمة في كل الفصول؛ لأنها في سباق مع الزمن؛ لتصبح الأفضل بين عواصم أخرى في هذا العالم.
الانفتاح الثقافي الذي تحققه الرياض بالتدريج يملؤك فخراً وفرحاً، وورشة الأشغال التحضيرية في جسد المدينة تحول المشهد أمامك إلى صورة زاهية لمستقبل الرياض القادم.
* يقول عاشق الرياض الدكتور (غازي القصيبي) - رده الله إليها وإلينا سالماً -:
عرفت الرياض
فأنشدت شعراً
وغنيت للحب فيها البياض
فصرنا الرياض
ومهما تناءيت عنها
ستبقى الرياض بوسط الفؤاد!
assahm@maktoob.com