Al Jazirah NewsPaper Friday  15/01/2010 G Issue 13623
الجمعة 29 محرم 1431   العدد  13623
 
البرامج الفضائية بين طرح الإعلاميين ورؤى التربويين
د. محمد بن شديد البشري

 

يؤمن كل مجتمع بمنظومة من القيم يعتقد بها أفراده ويتمثلونها ويحافظون عليها ومن ثم يسعون إلى تسويقها، ويسند المجتمع إلى رجال التربية والإعلام ونسائهما مهمة المحافظة على هذه القيم والسعي إلى تماسكها وعدم خرقها أو اختراقها. تعمدت في شهر رمضان المنصرم بحكم عملي في المجال التربوي أن أتابع وأرصد قدر الإمكان ما يعرض على شاشات القنوات الفضائية المحلية والخليجية والعربية من مسلسلات وأفلام محاولا إخضاعها لمقاييس تربوية موضوعية تشمل أهدافها ومنطلقاتها وتتقصى آثارها التي تمس متلقيها ومتابعيها. عرضت بعض هذه البرامج، ومعظم هذه الأفلام وأكثر تلك المسلسلات على منظومة القيم التي يؤمن بها أهل هذا البلد الخير وقايستها مع مثيلاتها من الأفلام والبرامج والمسلسلات التي تنتجها وتخرجها بعض القنوات الشرقية والغربية التي تسير وفق رؤية شاملة وأهداف محددة تخدم مصالحها وتروج لثقافاتها، وتنشر قيمها. وجدت للأسف الشديد أن معظم ما أفرزته القنوات الفضائية التي يتلقفها صغارنا ويتابعها كبارنا في الشهر المقدس وغيره من الشهور لا يمكن تصنيفها وفق رؤية شاملة أو أهداف محددة، وإنما هي خليط من اجتهادات في غير محلها وتخبطات غير مدروسة صاغها أناس أشبه بالرعاع وكتب أحداثها ورتب فصولها جهلة في ثياب علماء وقام ببطولته سذج أغبياء.

إن المتأمل لما تطرحه القنوات العالمية التي تسير وفق رؤية شاملة وأهداف محددة يجد أن جميع ما يطرح في قنواتها وفضائياتها يسير وفق نسق محدد، وأن جميع ما يبث يحقق أهدافا محددة. فها هي الأفلام الأمريكية تخرج من ردهات هوليود لتنشر الثقافة الأمريكية محاولة أمركة الفكر العالمي وقد تحقق لها كثير مما خططت له، وها هي البرامج والأفلام الأوروبية تسوق لمنتجاتها الفكرية وتراثها العلمي وقد حققت معظم ما تريد، وها هي الأفلام الكورية والمسلسلات اليابانية تسير وفق رؤية واضحة لتلميع القيم التي تؤمن بها بلدانها، وقد توصلت لأكثر ما تريد، وها هي الأفلام والمسلسلات التركية تحاول جاهدة الدعاية لطبيعتها الخلابة سعيا في اجتذاب السياح الغربيين والشرقيين، وقد نالت ما تريد، ونحن للأسف الشديد لم نحقق ما نريد بل لا نعرف أحيانا ما نريد.

إن معظم ما يطرح في القنوات العالمية من برامج وأفلام لا يتم عرضه إلا إذا خضع لتمحيص ومراجعة من عدد من التربويين والإعلاميين من أجل دراسة أبعاده التربوية والإعلامية، وقياس مدى الأثر الذي سوف يحدثه إضافة إلى التعرف على مدى مطابقته للمقاييس الأخلاقية والقيم الخلقية التي ينطلق منها؛ لأنهم متأكدون أن ما يبث منطلقا من بلدانهم لا يمثل أبطاله وممثليه وكاتبي أحداثه ومخرجي حلقاته، وإنما يمثل الثقافة التي انطلق منها فهو إن أحسن فلها وإن أساء فعليها. إنك إن تعجب فاعجب من بعض تلك البرامج والمسلسلات والأفلام التي يخرجها بنو قومنا ويقوم بأدوارها من هم من أهلنا، وحينما تغوص فيها وتتأملها تجدها تروج لثقافة عفنة وحالات شاذة لا تمثلنا ولا تتماشى مع قيمنا، ولكن حب الشهرة وضحالة التفكير سولتا للمنتجين والمخرجين، وزينت لهم قبح عملهم ورداءته، حتى قدموا لنا تلك المنتجات المملة، وعرضوا أمامنا تلك البرامج الموغلة بالتفاهة والمدبجة بالسفه والتهريج، والضحالة. والطامة الكبرى أن أبطال تلك المنتجات يرون بأنهم أتوا بما لم تأتِ به الأوائل فتراهم إذا مشوا يمشون باختيال، وإذا تكلموا تكلموا بنبرة القادة الحكماء حتى أعجب بهم العامة والرعاع فتنافست برامج الهواء على استضافتهم وكأنهم الأبطال الفاتحون، وممن حظي باستضافة بعضهم برامج يزعمون بأن المشاهدين نجومه فترى الواحد منهم يلوح بيديه للمشاهدين ويمشي مشية التيه وكأنه قهر كسرى وأدب قيصر.

إن كثيرا من البرامج التي يخطط لها في القنوات الغربية يتولى إنتاجها ويقوم بأدوارها شخصيات مدربة تحمل مؤهلات عالية وتخضع لتقويم مستمر حتى يوكل لها القيام بإنتاج برامج تسويقية أو أفلام دعائية تتماشى مع منظومة القيم التي يؤمن بها هؤلاء وتتلاءم مع الرؤى المستقبلية التي يخطط لها أولئك، أما بعض من تولوا أمر ذلك عندنا فهم من خريجي الحارات القديمة ومن مدمني شرب الشيشة في المقاهي التي تقع في أطراف المدينة، فلا هم في العير ولا هم في النفير. إن أكثر من يتألم ويعتصر ألما من المنتجات الرمضانية التي تزداد سوءا عاما بعد عام هم أولئك التربويون الذين يخططون ويكدحون وتبح أصواتهم وتدمى أيديهم وهم ممسكون بشراع سفينة الأخلاق التي مزقته سهام الغوغاء من بعض الممثلين والممثلات الذين كلما غزل التربويون غزلا نكثوه بهرائهم ونقضوه بسفههم وتهريجهم. كلنا أمل وجميعنا على أمل بأن يصفو لنا شهرنا وأن يقدم فيه ما يسوق لقيمنا، ويرفع شأننا، وما يبني نشأنا ويصنع مستقبلنا، ولن يتم ذاك إلا بتضافر الجهود وتعاون التربويين مع الإعلاميين واختيار نماذج مشرقة من المنتجين المتعلمين الذين يعون ما يفعلون ويخططون لما سيفعلون وفق رؤية معالمها واضحة تستقي من قيمنا ومبادئنا وأصالة وطننا الذي نفاخر بكنوزه التربوية التي نعتز بها ونتمثلها، ونعرف حاجة غيرنا إليها، ومتأكدون بأن الكثيرين ينتظرون البرامج الإعلامية المسوقة لها، والداعية إليها، فمتى تصفو مياه بعض برامجنا وكثير من مسلسلاتنا فنشرب منها وينهل منها غيرنا!

أستاذ المناهج وطرق التدريس المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد