Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/02/2009 G Issue 13284
الثلاثاء 15 صفر 1430   العدد  13284
وللانفتاح أيضاً مرارته: جيل تائه ممسوخ..!
د. محمد بن عبدالله العوين

 

كنت حين تتاح لي فرصة زيارة أي من البلدان الأوروبية مع أسرتي وأرى ثلة من الشبان والشابات مجتمعين في غير نظام ولا وعي أحياناً أمام المجمعات التجارية الكبرى، أو درج المباني القديمة، أقول لأبنائي: انتظروا، سترون أمثال هؤلاء لدينا قريباً جداً في الرياض أو جدة أو الخبر أو أبها أو غيرها من مدن المملكة!.

كنا نقف مندهشين مأخوذين في استنكار وانزعاج لمنظر الشبان والشابات، شعور طويلة، وقمصان فضفاضة جداً أو ضيقة جداً، ورسوم غريبة على هذه القمصان، وقد تكون في الغالب على الظهر تصور جمجمة على عظمتين، أو رسماً متخيلاً للشيطان، أو ألسنة لهب تنطلق من فم مفتوح، أو قطة سوداء مشعة العينين لا يبدو منها سوى الوجه! ويعم السواد الكلي أجساد النساء، بحيث تبدو وكأنها في مأتم، وتضع كثيرات منهن كحلاً عميقاً وكثيفاً على أعينهن، وتسمع صريراً وجلبة لأصوات السلاسل المتدلية على الساقين المكتسيتين بالسواد!

سألت ما شأن هؤلاء وأولئك من الشبان والشابات الذين أراهم في بعض المدن يتقاطرون إلى ما يشبه النادي الخاص بهم، فقالوا لي: إن هؤلاء طائفة تدعى عبدة الشيطان!!

ورحت أقرأ وأتتبع هذه الطائفة، كيف نشأت؟ وكيف تفكر؟ وماذا تريد؟ ومن هم معلموهم وأساتذتهم؟ فوقعت على تاريخ غير بعيدة لنشأة هذا التيار المأفون الشرير في أوروبا عامة، كاحتجاج على الجدية والخلق والانضباط والإنتاج والالتزام الاجتماعي، مما هو صفة الإنسان المنتج الذي بنى هذه الحضارة وأوصلها إلى درجات متقدمة في الكشف العلمي المذهل في الطب والصناعة والاتصال والزراعة وغيرها.

نشأت هذه الطائفة القذرة وتفتق فكر منظريها الأشرار نكوصاً وردة وهزيمة ورجعية إلى أردأ ما وراء اللباس الأسود الفاحم، ولا الكحل المغرق العينين مع إصرار على الحواف، ولا الصرامة في المشية وعدم الالتفات منهم أو منهن إلى من حولهم، لأن ذلك كله قد لا يوحي إلا بشيء واحد فقط وهو التميز في المظهر، والرغبة في لفت الانتباه، كون معظم المنتمين إلى هذه الطائفة المأفونة من المراهقين في الغالب ممن تكون أعمارهم بين الخامسة عشرة والثلاثين!.

إن وراء هذه المظاهر الغريبة، كالشعر الطويل الفوضوي، والملابس المهلهلة، والسواد الطاغي، والتحنث في الوقفة أو المشية أو الكلام ما وراءه!!.

ففي الكواليس وبعد ردهة باب ما يشبه النادي أو البار الشيطاني تنتهك كل القيم الأخلاقية، وتسفك دماء الفضيلة، ويراق (الدم) الأحمر القاني من قط أسود تسطعمه الألسن وتتذوقه الشفاه علامة الشره في القسوة والعدوانية ورغبة في التنفيس عن حمم مكتومة من الثورة والتمرد، وتؤدي طقوس الولاء للشيطان باعتباره مانح اللذة وواهب المتعة والمظلوم -حسب اعتقادهم- المطارد باللعنات بغير وجه حق، فيحظى منهم بالخضوع والاتباع، وتكون تعاليمه لهم - حسب منظريهم- بمخالفة كل قيم الخير والخلق وضوابط الصلات بين الرجل والمرأة، بل بين الرجل والرجل، فداخل معبد الشيطان الآثم تلغى الممنوعات والمحرمات، ويندفع أعضاء هذا المحفل بشره جنوني شيطاني العربدة وإلغاء العقل والإحساس بمعنى الخطأ والصواب في التعاطي مع الحياة والإنسان والمقدس!.

لقد رأيت في أمستردام ونحن في مقهى قريب من هذا المحفل كيف تتقاطر الفتيات المراهقات مكللات بالسواد وبرفقتهن أمهاتهن!! ليسلمنهن في طابور طويل إلى متعهد الدخول إلى هذا المحفل الشيطاني في عيد سنوي كبير يفد إليه المئات من الشبان والشابات من كل أنحاء هولندا!.

ومثل ذلك يحدث في المدن الأوروبية الأخرى، في بون وبرلين وفرانكفورت وباريس ولندن وفينا وبروكسل وغيرها!

كنت أقول لأبنائي: إننا لا نتمنى أن نرى أمثال هؤلاء الهيبز أو الخنافس أو سمهم ما شئت في مدننا؟! ولكن مفهوم (القرية الكونية) التي تجعل ما يحدث في هولندا أو باريس أو غيرهما حاضراً وربما على الهواء مباشرة عبر محطات التلفزيون أو عبر الإنترنت أمام كل شاب وشابة!.

فلا مفر أبداً من الاتصال والتواصل، ولا مكان اليوم لمن يريد إغلاق منافذ الهواء والشمس والمعلومة عن نفسه، لأنها تأتي غازية أحياناً دون اختيار، ومطلوبة أحياناً باضطرار، بيد أن ذلك ما يستدعي التأمل والبحث عن رؤى ترشد وتوجه وتعين على حماية الجيل الجديد المتلقي المستقبل بحيث يطمئن إلى أن الحفاظ على (الهوية) من الانسلاخ والذوبان والتلاشي سمة قوة ومنعة ومبعث اعتزاز وفخر حتى عند الشعوب الأخرى، والحضارة الغازية.

لقد رأينا ما كنا نرغب في عدم رؤيته مع الأسف البالغ الشديد المرارة، فتزيا نفر من الشباب بأزياء غريبة بشعة وطالت الشعور بدرجة مقززة، ولجأ بعض الشبان إلى (الطوق) و(البكلة) من أدوات النساء في ضبط شعورهن! ورأيت في أحد شوارعنا الرئيسة نفراً من الشباب يقف بجانب سيارة فتحت (شنطتها) فبان رسم كبير ملصق بالباب يتمثل في جمجمة رابضة على عظمتين! وهو شعار عبدة الشيطان!.

ورأيت في شارع آخر شباناً يلتقون في أمسيات نهايات الأسبوع على جانبي الشارع ويظهرون في أشكال غريبة ويتواصلون مع بعضهم بطريقة لا تخلو من التخنث والشذوذ.

وسمعت أن ثمة نسبة من هذه السلوكات الغريبة الشاذة لا تخلو منها كلية أو معهد جامعي للبنات، فانتشرت ظاهرة المبالغة في التكحل على طريقة منتسبي الطائفة الشيطانية ولبس السواد، وقص أو حلاقة الشعر وتلوينه بطريقة لافتة الانتباه ووضع الحلق في اللسان أو الشفة أو غيرها!

إنها في حقيقة الأمر الهزيمة النفسية الحضارية والشعور بالضعف والهوان، والانقياد التابع الذليل للغازي، وتقليده رغبة في اللحاق به والانتماء إلى رتبته الحضارية المتقدمة، وفي المقابل تنم هذه السلوكيات الشاذة عن نقمة تشبه الحمم والبراكين الثائرة في نفوس هؤلاء الشبان والشابات على الواقع الاجتماعي بمنظوماته الدينية والأخلاقية والتقاليدية.

كما أنها توحي باضطراب نفسي، وقلق وجداني، وحيرة عقائدية، وتردد وشك في معرفة الخطأ والصواب، والقبيح والحسن، وما يحسن أخذه، وما يجب تركه، ولا غرابة لو تحول أحد هؤلاء يوماً من النقيض إلى النقيض كردة فعل، فانتقل من التطرف في هذا المسلك الشائن المهزوم إلى تطرف آخر مضاد، فبالغ وتزمت وربما تطرف إلى أكثر من ذلك فأعلن الخروج على مجتمعه واتهمه بالكفر والردة، وليس هذا الأمر قاعدة في كل الأحوال بيد أنه قد يحدث كما مرّ بنا من خلال سير بعض التكفيريين، فالتطرف دائماً لا يفضي بصاحبه - في كل مسلك ومعتقد- إلى أحكام ورؤى متعقلة معتدلة.

ولعل من المناسب ونحن في هذا السياق الوصفي لثلة - نتمنى ألا تزداد اتساعاً وتأثيراً- من شبابنا أن نهمس في آذان الراكضين وراء الاحتزاء الأهوج، المندفعين خلف الغريب الأجنبي، المبشرين بالتقدم والرقي والمدنية من خلال (الاستنساخ) الغبي لصورة الآخر المختلف، واللاهثين وراء تطبيق المنظومات الاجتماعية الغربية على مجتمعنا أن نقول لهم بكل المحبة والخوف والقلق على مستقبل أجيالنا: على رسلكم! ترفقوا قليلاً! وخففوا من غلوائكم واندفاعكم! فما تطمحون إليه لا يحتاج منكم إلى كل هذه الصيحات (الليبرالية)، ولا إلى هذه الدعوات الانفتاحية، فالأمر تجاوز الحاجة إلى صيحات الانفتاح والابتاع والتقليد للظواهر الأجنبية الغريبة إلى الحاجة إلى صيحات التؤدة والتفكير والنظر المتأني في ما يجب أن نأخذ وما يجب أن ندع!.

على رسلكم أيها الاتباعيون الليبراليون الراكضون المحتدون فالسيل الهادر من الغزو لا التثاقف، والحمم المنقضة من الإرسال المرغم لا الرضا والانتفاء والاختيار تجاوز تلك المرحلة الأولى القديمة التي كنا -سوياً- نلح على انفتاح مجتمعنا وعلى ضرورة التغيير الاجتماعي، وعلى مواجهة التقاليد الاجتماعية، وعلى.. وعلى.. إلى آخره!

حري بنا في هذه المرحلة أن نقف جميعاً بحس المخلص الأمين على أهله وأبنائه ومجتمعه، محافظين وليبراليين وننظر إلى المستقبل: كيف نريده؟ وكيف يمكن تخيل مجتمعنا في ظلال هذا الاندفاع المتسارع نحو التخلي والبرم بالهوية الثقافية الذاتية والارتماء في تجارب أخرى قد لا يثمر إنباتها نباتاً حسناً في بيئتنا، نظراً لتراكمات تاريخية واجتماعية تستمد مناعتها وقوتها من الإرث الديني والأخلاقي المتأصل والمتجذر، والذي يشكل البنية الأساس الحامية لهذا المجتمع والدافعة له إلى التماسك والصمود والتوازن أمام هذه الرياح الساخنة الهابة من كل أرجاء الدنيا.

حري بنا ألا نعيد ونكرر تجربة النهوض في بعض المجتمعات العربية مطلع القرن العشرين، وما تلاه من عقود زمنية قليلة، تلك الفترات التي اندفعت فيها مجتمعات عربية بصورة غريبة نحو تفتيت بنى المجتمع التقاليدية ودك المعاول فيها وتحسين وترغيب النموذج الغربي بكل ما فيه من حسن وقبيح في أنظار الناشئة، حتى بدأت المجتمعات العربية تشكل مناعاتها الخاصة بالعودة إلى الاحتماء بالذات الأصلية واستحياء مكامن القوة والاعتزاز والحماية في القيم الدينية، وهو الأمر الذي يفسر ظاهرة الإحياء الديني أو الصحوة التي تجاوزت القدر اللازم للتوازن في بعض مراحلها ونحت إلى المواجهة!.

لسنا في حاجة إلى أن تكرر وتعيد إحدى شاباتنا من الكاتبات والإعلاميات مقولات نوال السعداوي: إن المرأة أحوج لى التعدد من الرجل!!.

فالثورة على التقاليد لذات الثورة دون وعي شديد بنتائجها قد تقود إلى مزيد من الارتكاس في أتون القيود التي قامت عليها الثورة الفكرية!.

على رسلكم أيها الداعون إلى مزيد من الانفتاح فقد لا تتمكنوا يوماً من رفع الصوت بإيقاف هذا المد من الاستنساخ والذوبان والضعف والتقليد والغناء الغبي في كل ما هو شاذ وغريب ومختلف!

على رسلكم: العالم تستبد به دعوات العودة إلى الانضباط وأنتم لا زلتم ترغبون في خوض بدايات التجربة المرة!.



ksa-7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد