يتفق المنظرون والراصدون لحركة التاريخ على أن أسرع الاقتصاديات الكبرى نمواً في عالم اليوم هو الاقتصاد الصين الذي ظل على مدى عقود من الزمن يتقدم ببطء، وظلت الصين الشيوعية معزولة عن بقية العالم بشكل كبير، وظل الشعب الصيني يعاني الفقر والجهل والأمراض وليس لديه أمل في تحقق حياة أفضل في ظل النظام الديكتاتوري الذي كان جاثماً على صدره آنذاك، وقبل أكثر من ربع قرن وعلى وجه التحديد عام 1978م قررت الحكومة الصينية فتح أبوابها على مصراعيها للعالم الخارجي والخروج من دائرة العزلة وظلمة الانغلاق، قررت وبشجاعة تكسير الأصفاد الأيديولوجية والديكتاتورية التي طوقت نفسها بها سنوات، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ضخت الشركات الأجنبية أكثر من600 بليون دولار داخل الصين، وشيد الأجانب مئات الآلاف من المصانع، ووظفوا عشرات الملايين من الأيدي العاملة وهكذا تحققت لملايين الصينيين فرصة النجاح بعد أن كانت الحياة في نظرهم سوداوية مظلمة لا أمل للعيش الكريم فيها، ومن ثم تغير الوضع المعيشي للفرد الصيني حتى بلغ متوسط ما يكسبه العامل الصيني اليوم خمسة أضعاف ما كان يحصل عليه قبل هذا التغيير والإصلاح وامتلك الملايين من الصينيين الهواتف والحواسب بل والسيارات والشقق السكنية والمتاجر و...، ولم يقتصر الأمر على سكان المدن الكبرى الصينية بل إن عشرات الملايين من الشباب الصيني رحلوا من قراهم ليسكنوا داخل المدن الكبرى وينخرطوا في سلك العاملين، وصعود الصين الصاروخي هذا ليس مجرد انتقال للوظائف عبر البحار بل هو في حقيقته تحول كبير بالغ الأهمية في جيوبوليتيكا ما بعد الحرب الباردة، فضلاً عن كونه يعني زيادة الطلب على النفط من جهة شرقية وهذا يؤدي بالضرورة إلى تحولات بيئية شاملة، وهذه التحولات البنيوية الكبرى هي السبب الأقوى فيما نراه من تحول في المشهد السياسي والاقتصادي العالمي اليوم، ومع أن المملكة العربية السعودية هي أخر دولة عربية أقامت علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية - 1990م - مع ذلك استطاعت هاتان الدولتان الرقي بمستوى العلاقات المتبادلة - التي تحكمها مصالح ورؤى مشتركة - إلى آفاق أوسع ومجالات أرحب، ويمكن القول إن الفترة الزمنية منذ عام 1990 وحتى 2009م فترة كافية لتحقق التطور الناضج لعلاقة متوازنة ومتينة بين البلدين، والعلاقات في وجهها الأساس علاقة اقتصادية ولها أبعاد مختلفة سياسية وثقافية وعلمية، وما يميز هذه العلاقة الاقتصادية هو قيامها على مبدأ (الثقة) والتي تعنى في نهاية المطاف تحقق المصداقية بين الطرفين، وتعززت هذه الركيزة المهمة خلال الفترة الماضية نتيجة أسباب عدة أهمها - في نظري - بإيجاز:
* الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى بين الدولتين، وتأتي زيارة الرئيس الصين الحالية للمملكة العربية السعودية في هذا الإطار.
* الحاجة القائمة من كل طرف للطرف الأخر، والمصداقية في التعامل حين تبادل المصالح من الكل.
* الوقوف الرسمي والشعبي السعودي مع الشعب الصيني حين الحاجة، وصنع المعروف لهم وقت المحنة، فالمساعدات السعودية الإغاثية والغذائية والتي تعتبر الأكبر على المستوى الدولي والتي قدمت لمتضرري زلزال الصين القاتل - كما يقول سعادة السفير السعودي في الصين - (كان لها كبير الأثر على جميع المستويات وحققت ما عجزت عنه الدبلوماسية عبر سنوات وذلك بفضل من الله تعالى ثم بحنكة وبعد نظر خادم الحرمين الشريفين ومبادرته الإنسانية بتقديم 50 مليون دولار مساعدة نقدية و22مليون دولار مساعدات إغاثية تمثلت في تأمين 17ألف خيمة وبناء خمس مخيمات لإيواء اللاجئين في المناطق المتضررة إضافة إلى دراسة تأمين متطلبات المتضررين من خلال ممثلي وزارة المالية والحكومة الصينية وسفارة خادم الحرمين الشريفين في بكين (ولقد انعكس هذا الصنيع الخير على حسن التعامل مع السعوديين سواء المقيمين أو الزائرين، وعني شخصياً فقد زرت بكين وكان ذلك واضحاً بشكل لا يحتاج معه الأمر إلى دليل.
* وجود أمثال المهندس يحيى بن عبدالكريم الزيد سفيراً في الصين فهو من جمع الخبرة الإدارية والمعرفة الاقتصادية والاستشارة النفطية إضافة إلى ذلك فقد حباه الله عز وجل الذكاء الفطري والفطنة العربية ومحبة الآخرين وحسن العشرة وجميل الخصال وتواضع الكبار وكرم الطائيين وإجادة فن الحوار ومنهجية التفكير العلمي الرصين، ويجتمع حول معالي السفير ويشاركه في بناء جسور الثقة هناك ثلة من أبناء هذا الوطن المعطاء، الملحق العسكري والثقافي والتجاري والطبي ومنسوبي وزارة التربية والتعليم والعاملين في السفارة ولقد تشرفت باللقاء بهم جميعا والتعرف عليهم واحداً واحداً وسرني كثيراً ما بينهم من محبة وتواصل وتكاتف وإخاء وللحديث عن رحلتي للصين مقال آخر وإلى اللقاء.