تمر علينا الأيام ولا نعرف ماذا تحمل بين طياتها.. تجارب نعيشها، ومواقف نمر بها، لتبقى بعضها في ذاكرتنا وتظل فصلاً مهما ً وغاليا ً في تاريخنا.. كانت لي تجربة متواضعة أردت من خلال هذه الزاوية أن يشاركني فيها عزيزي القارئ.
بدأت تجربتي أو فكرتي حين قرأت خبر قبولي في الجامعة في الفصل الدراسي الثاني من العام فأردت أن أستغل أشهر الفصل الأول في عمل أو تجربة تعود علي بالخبرة.
كانت فكرتي مجموعة من الأنشطة التي ستفرز عددا هائلا من المواهب المدفونة والطاقات المهدرة.
كانت هذه الأنشطة مستوحاة من المدارس الحديثة التي تهتم وتحرص على تنمية الجوانب الفكرية والنقدية في عقلية الطالب.
ولكي أكون واضحة ومحددة أكثر في حديثي.. كانت الأنشطة باقة من الأندية المتنوعة التي تكفل لكل طالبة مقعد يتناسب مع ميولها واهتماماتها.. منها (نادي الصحافة) الذي يتكون من أسرة تحرير يتم تأسيسها بحسب تصويت الطلاب وهي من تُصدر صحيفة مع بداية كل شهر.. تكون من الطلاب وإليهم.
و(نادي الكتاب) وهو أكثر النوادي شهرة في العالم، فهو ملتقى أسبوعي لمناقشة كتاب معين وتسليط الضوء على أهم وأجمل ما ورد فيه. و(نادي الثقافة والحوار) الذي يناقش مواضيع تحاكي اهتمامات الطلاب وتلامس اهتماماتهم وتلبي احتياجاتهم.
ونادي المسرح الذي يعتبر ميدان لتلاقح وتفاعل المواهب، فالعمل المسرحي عمل يحتاج إلى مجموعة من الأشخاص ذوي المواهب المختلفة بدءًا من كتابة النص وانتهاء ً بالإخراج.. فأتى نادي المسرح لتنمية روح العمل الجماعي والخروج بعمل مسرحي مكتمل الفصول.
راودتني فكرة الأندية كثيرا وأردت تطبيقها في إحدى مدارس مدينة الرياض. فوقع الاختيار بشكل عشوائي على مدارس (رياض نجد) التي رحبت بالفكرة.
ومن هذا المنبر أحب أن أجزل الشكر لمشرفها العام الدكتور إبراهيم العقيل صاحب الموهبة الإدارية الفذة والنظرة الناقدة الحانية على إعطائي الثقة والأمل والنصائح التي كانت مفاتيح نجاح تجربتي.
تمت الموافقة على الفكرة وتم تحديد موعد مباشرتي في العمل.. حقيقة كنت أشعر بالخوف والرهبة فأنا سأدلف إلى عالم لا أعرف فيه أحدا ً.
السبت كان يومي الأول في هذه المدرسة.. بدا المكان غريبا ً!
رأيت عن قرب عالم المعلمات وقصصهن وطموحاتهن ووصفات الطعام اللذيذة وخلطات البشرة وأحاديث أخرى تدور في غرف المعلمات.
فكانت هذه الغرف وطنا جمع معلمات من عدة جنسيات عربية ليتبادلوا الخبرات والقصص مع فنجان القهوة الصباحي.
وتأملت عن كثب دقة العمل وسرعة اتخاذ القرار الصائب في الإدارة التي تعتبر رأس هذه الكيان المدرسي.
بدت هذه العوالم مختلفة تماما ولا يجمع بينهما إلا المكان.. فعالم الطالبات وحكاياتهن الجميلة يختلف عن عالم المعلمات المزدحم بالهموم حيناً وبالطموحات والأحلام أحيانا ً أخرى!.
كنت أرى الاستغراب والاستنكار في عيون الطالبات قبل أن أعرفهن نفسي، فبعضهم تقبل الفكرة وبعض الآخر أصر على مشاعر الحذر مني.
اجتمعت الطالبات في مسرح المدرسة وألقيت خطابا ً للتعريف بنفسي ولأي شيء جئت.. وقلت في خطابي أنني لا أدعي النجاح ولا أعدكم بالنتائج الفورية ولكن أعدكم بالمحاولة الجادة والمجهود المضاعف وتطبيق قواعد النجاح وأبجديات التميز بحذافيرها لأصنع التغيير في المدرسة.
وكررت أنني لا أعرف أحداً ولكن كل ما أعرفه أنني جئت لهدف محدد وضعته نصب عيني.. جئت وأنا أحمل في قلبي وعقلي فكرة حان موعد تنفيذها.. وأنا هنا من أجل كل طالبة لم تجد نفسها ولم تجد قيمة للحياة ولمن تعتبر أن الوقت مجرد زمن يمضي والطموح كذبة والحلم فراغ.
انتهى الخطاب ولم تنته أو تقل رغبتي في التغيير وصنع فرق والخروج عن مناهجنا السعودية التي علمتنا حفظ أشياء ننساها بعد خروج المعلمة من الحصة.. فهي لم تعلمنا أن نفكر أو نقرر أو ننقد أو نبدع أو نحب المدرسة والحياة!.
انطلقت الأندية بحماس ورغبة كبيرة بالمشاركة والتفاعل ومرت الأشهر والأندية تكبر وتلقى اهتماماً وتفاعلا ً.. وكنت أرى مواهب تظهر واهتمامات تُصقل وأفكار وطموحات تتسع واعتقادات سلبية تزول وأخرى إيجابية تستغل.. كنت سعيدة وأنا أرى الطالبة تعبر عن رأيها بجرأة وتطرح أفكاراً ورؤى رائعة.
كانت لدى رياض نجد رغبة في التغيير والتطوير الخروج عن الروتين الدراسي الممل فنجحت في ذلك وجعلت الأنشطة شرارة الانطلاق لمواهب وطاقات تضيف لها وللطالبة وللوطن وللأمة - بإذن الله -.
لم أكن أملك عصا سحرية تغير الأشياء وتجملها ولكني كنت أملك الإيمان والطاقة والأمل والحلم والطموح والواقع!.
كلنا لدينا طاقات ونحن موهوبون بالفطرة ولكن النجاح كما قال أديسون 99 % تعب و1% إلهام.
ولأني كنت طالبة كنت أشعر وأدرك مدى روعة أن تكون المدرسة مكاناً للمتعة إلى جانب التعليم.
المرأة السعودية قادرة على صنع فرق في مجتمعها وفي وطنها وفي العالم ولكن إذا شعرت بأهميتها وأدركت أنها قادرة على ذلك وأتيح لها المجال للتفكير والنقد والإبداع.
و إذا أردنا أن نكون في مصاف الدول المتقدمة والمنتجة لا المستهلكة فقط يجب أن ننمي هذه المواهب ونستثمر الطاقات المهدرة ونفتح العقول التي هي مثل المنطاد لا تعمل إلا حين تفتح!.
قد يكون هناك تجارب إبداعية أكبر وأهم من ذلك في عدة مدارس في المملكة، ولكنها لم تظهر في النور ولم تسلط عليها الأضواء.
و من هنا أهيب بدور القيادات التربوية في تطوير ومحاكاة بعض التجارب الإبداعية الفردية أو الجماعية في داخل المملكة أو خارجها فالإبداع لا وطن له والحكمة هي ضالة المؤمن في كل العصور.
ختاما ً أقول.. شكرا من الأعماق لكل طالبة ومعلمة وإدارية في مدارس رياض نجد على ابتسامة أو نظرة أو كلمة جميلة كانت حافزا ً لي للعطاء ووقودا ً للاستمرار. (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
* * *