خرج علم الإدارة في التاريخ الحديث لتنظيم الأعمال، ولدفع مسيرة النمو وعجلة التطور في الإنتاج إلى الأمام مع مراعاة الجودة في الأداء.. هذا هو فهمي البسيط لهذا الفن الذي له الفضل في تحويل بعض الدول الآسيوية إلى نمور تكسر معدلات النمو الحديث، وفي ضمان استمرار الغرب في مقدمة الدول في الصناعة والاقتصاد والصحة والتعليم وحقوق الإنسان.
لذلك أعتقد أن من أهم الأزمات والتحديات التي نواجهها في العصر الحديث هي استثمارنا الخاطئ في الإدارة، فنحن مصابون بورم إداري ليس على طريقة (لا تحسبن الشحم في من شحمه ورم)، لأن الشحم أيضاً علامة سلبية على الصحة البدنية، وإن لم يصل إلى درجة خطورة الورم وضرره، فالسمنة ضارة وغير منتجة، بعكس العضلات التي لو كان محل الشحم لاستقام معنى البيت للشاعر العربي الشهير،.. والإدارة هي في موضع العقل، ومن المفترض أن تمثل حيزاً صغيراً من حجم المؤسسة قادراً على تسيير شئونها مثلما هو العقل الصغير حجماً قادر على تنظيم مختلف الأعضاء في جسم الإنسان،.... وليس مثل الشحم المترهل الذي يثقل المؤسسة بالأعباء والأوزان غير المجدية..
فالتضخم الإداري هو التحدي الذي نواجهه، ويمثل حسب وجهة نظري العائق الأهم في طريق النمو والتطور في مختلف المجالات، وتكمن الإشكالية في الهرم الإداري المتضخم عندما يصبح عدد الذين يعملون في الإدارة متساوياً مع أعداد العمال أو المهنيين أو أولئك الذين يعملون في خطوط الإنتاج، ويصنعون الأرقام التي تدل على نجاح أو فشل المؤسسة..
لا زلت كذلك أحسب أننا نعاني من متلازمة تاريخية في ثقافة العمل، وأظن أن الخروج منها قد يكون مستعصياً مع مرور الزمن. وهذه المتلازمة الثقافية تتلخص في أن القبيلة تسكن في داخل العقول، وتجري مجرى الدم في العروق، أي أنها إرث يتناقل مع تعاقب الأجيال، ويتميز أيضاً بقدرته على الانتقال للوافدين مهما كانت جذورهم، فقد مرَّ علينا غرباء تم تحويلهم ثم إدماجهم في ثقافة القبيلة ومع تقاليدها العريقة،... لكنها قبيلة بمواصفات حديثة، يغيب عنها شعار التحدي وتظهر على أعضائها الشحوم والنعومة، وتكتفي بغزواتها الداخلية لإدارة مصالحها.
لا أظن الأمر يحتاج إلى مسائل رياضية معقدة لإثبات هذا الإرث أو إلى جهد مضاعف لكشف ارتباطها العضوي بإشكالياتنا المعاصرة، فالصورة في منتهى الوضوح، والهيكل الإداري في بعض المؤسسات شبيه لحد كبير بهيكل القبيلة الإداري وتقاليدها. فالمدير العام يمثل الشيخ الذي له الطاعة والولاء، وكادره الإداري الضخم هم رجال القبيلة، ومهمتهم الحفاظ على مصالح الإدارة، وتجمعهم رابطة الولاء وليس ميزة الكفاءة، ومقابل ذلك يتفوقون بمكانتهم القريبة وبمكافأتهم مقارنة مع غيرهم ممن اختار أن يعمل في خطوط الإنتاج.
كذلك تميز أعضاء شرف القبيلة الإدارية بالحصانة على الرغم من عدم جدواهم في ثقافة العمل الحديثة، بينما يتم توجيه خطابات الإنذار والتهديد بالفصل إذا حدث يوماً وأخطأ أحد العاملين في جبهات العمل والإنتاج.. كذلك يظهر الشبه جلياً في فخامة صالونات الاجتماعات وتكلفة المناسبات وزي المراسلين ومكاتب الإداريين التي تتكاثر حول مكتب المدير، وفي أيضاً كثرة الاجتماعات الهامشية والقرارات وتضادها في معظم الأحوال.
واقع الأمر مستعصٍ ولن نستطيع الخروج من هذه الدائرة بقرار إداري، فالقضية تحتاج إلى غسل فعال للعقول، وذلك من أجل الخروج من هذه الدائرة المغلقة. فما تفرزه الثقافة الحالية وفلسفتها الإدارية هو ضد الإبداع، ويقتل روح المغامرة، ويحفز العقول على تفضيل المحافظة على الحرية، ويقدم التأني على السرعة، وهي أمور لم تعد تنفع في قرن أصبحت فيه الرحلة إلى المريخ ممكنة.