لعبت المرأة ولا تزال أدواراً مختلفة وعظيمة ومتميزة في حياة المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ الإنساني. وكان لبعض النساء تأثير قوي وفعال على بعض الرجال ليصلوا إلى مراتب عليا في السياسة والقيادة، والإبداع الفني والأدبي وغير ذلك، وفي المقابل فبعضهن كان لهن تأثير..
سلبي على بعض الرجال حتى وصلن إلى الحضيض نحن لا نعرف عن ماهية الأسباب التي تجعل امرأة بعينها يكون لها تأثير قوي على رجل بعينه فيتغير مجرى حياته فيرتبط اسمها باسمه إلى الأبد. ففي الثلاثينات من القرن العشرين الماضي تخلى ولي عهد الإمبراطورية البريطانية عن الملك من أجل امرأة أمريكية مطلقة، وهذا دكتاتور الإرجنتين بيرون يغير مجرى حياته في نظره إلى فقراء شعبه بسبب الراقصة إيفابيرون. وفي تاريخنا الأدبي نجد عنترة مرتبطاً بعبلة، والمجنون بليلى, وقيس بلبنى.. وحتى في القصص والأساطير نجد مثل هذا الارتباط، والأمثلة كثيرة، ونحن هنا سنتطرق إلى فيلسوف غربي من القرن التاسع عشر انصب جل إنتاجه الأدبي والفلسفي تجاه امرأة بعينها، وهذا الفيلسوف هو كير كجور دانيمركي الأصل، ويعد الرائد الأول للوجودية. ولد هذا الفيلسوف سنة 1813م وتوفي سنة 1855م. وأحب كير كجور امرأة تدعى رجينا أولزن ولكنها تزوجت غيره.. قال كير كجور في يومياته عنها: (لقد أحببتها جداً. كانت رشيقة خفيفة مثل الطائر، جسوراً مثل الفكر. وجعلتها تعلو وتصعد إلى أعلى باستمرار، كنت أبسط يدي فتستقر هي عليها وتضرب بجناحيها وتصيح: هذا رائع، هنا، وكانت تنسى، ولا تعرف أنني أنا الذي جعلتها خفيفة، وأني أنا الذي زودتها بالجسارة في التفكير، وبالإيمان بي، وأنا الذي جعلتها تمشي على الماء، وأنا الذي احتفلت بها، وهي كانت تتقبل احتراماتي. وفي أوقات أخرى كانت تركع أمامي، ولا تريد إلا أن ترفع عينيها نحوي، وأن تنسى كل شيء).
وقال: (والآن أرى بوضوح أن سوداويتي تجعل من المستحيل عليَّ أن يكون لي من أفضي إليه بالسر، وأعرف أيضاً أن ما تقتضيه مني بركة الزواج هو أن تكون هي من أفضي إليه بالسر. لكنها لا يمكن أن تصير أبداً كذلك، حتى لو كاشفتها بكل بشيء لأننا لا يفهم أحدنا الآخر.. ويرجع هذا إلى كون ضميري يملك مخرجاً زائداً.. وأنا واثق أنها لو كانت صارت زوجتي، لكانت قد خطرت ببالي- وأنا إلى جوارها في يوم الزفاف- فكرة أن أحدنا سيموت قبل نهاية اليوم، أو فكرة أخرى خيالية. وأذكر أنها، لا هي ولا غيرها من الناس، ما كانت لتلاحظ هذا على سيمائي. وفي باطني كنت سأكون ساجياً، هادئاً وادعاً، ومع ذلك كانت هذه الفكرة ستتملكني..
ولو كان لي من أفضي إليه بالسر لألقيت عليه هذا السؤال: (أليس من العار أن يقوم إنسان سوداوي بتعذيب زوجته بأفكاره السوداوية؟) وسيكون جوابه: (نعم! إن على الإنسان أن يضبط نفسه ويثبت بذلك أنه رجل). وحينئذ كنت سأرد عليه قائلاً: ( حسناً، هذا أمر أستطيع أن أفعله: في وسعي أن أتخذ مظهر الأمل الباسم، لكن هذا عينه هو ما أخفقت فيه، لأن هذا خداع لا يسمح به الزواج، سواء فهمت الزوجة ذلك أو لم تفهمه). لقد أطلق هذا الفيلسوف على محبوبته هذه عبارة (الشوكة في اللحم).. وقال كير كجور أيضاً: (استشعرت شقاء لا يبلغ مداه التعبير بسبب عذاباتي الباطنة والتي انضاف إليها عذابي من كوني جعلت رجينا شقية فكنت ضائعاً في هذه الحياة، هنالك استيقظ الإنتاج الهائل الذي أخذت فيه بحماسه ليست أقل هولاً.. آه ما أصدق القول الذي كثيراً ما قلته عن نفسي وهو أنه كما أن شهرزاد أنقذت حياتها بقص الحكايات، فكذلك أنا أنقذ حياتي أو أحتفظ بها بأن أكتب)... يقول بدوي: مؤلفات كير كجور خليط غريب من الاعترافات العاطفية الشخصية والتأملات الفلسفية، والمقالات الأدبية. وفي الكتاب الواحد أحياناً تتعاقب الأجناس الأدبية: يوميات، عرض منظم، مناجيات، صور أدبية، نقد مؤلفين أو مؤلفات، تفسير أحلام، إلخ ... واللهجة تتنوع فتنتقل من الجد إلى الهزل، ومن التهكم إلى العرض المنسق الجاد، (نقول: لقد أنقذت رجينا الشقية حياة هذا الفيلسوف بأن جعلته يكتب).
المرجع: موسوعة الفلسفة لعبد الرحمن بدوي، 1984م.