عجبت وما برحت أعجب من قوم لا يفرقون بين هيبة الحزن وشفافية الفرح.. حين يخلطون بينهما، ثم لا يعود الحزن حزناً.. ولا الفرح فرحاً!
بل يغدوان مزيجاً عبثياً من هذا وذاك!
**
* يلقاك أحدهم في مجلس عزاء، فلا يكاد ينتهي من ترديد جمله (المعلبة) لهذه المناسبة تعبيراً عن (المواساة) حتى يلتفت إليك أو إلى سواك، وقد اكتست وجنتاه ملامح من الفرح، وافتر ثغره عن ابتسامة بشر، وهو يحييك بصوتٍ عالٍ يكاد يجرح وجدان الحاضرين من أهل النعي والمعزين سواء، وقد يصر على دعوتك إلى منزله، تعبيراً عن اشتياقه، لتناول وجبة غداء أو عشاء، ويمضي يحاصرك باللغو من الكلام إصراراً، وأنت تراوغ عنه مرةً بالحديث المقتضب، وكأنك تقرع له ناقوس الحذر من خصوصية المجلس وهيبة الموقف، وأخرى تبتسم له ابتسامة.. تستعير من الشفق لونه.. إشفاقاً عليه وعلى نفسك من عبثه! ثم لا ينسى هو قبل الانصراف أن يودعك بعبارة: (ما أجملها فرصة)، وأنت غارق في ذهولك بين ما تسمع منه وما تراه!
**
* وقبل حين من الزمن، شهدت عبر يومٍ واحد حدثين متتالين في التوقيت.. مختلفين في المضمون، ففي الأصيل من ذلك اليوم.. شيعت مع من شيع شيخاً من ذوي القربى إلى قبره.. وبعد ذلك بساعات، شاركت مع من شارك في تلبية دعوة زفاف.. ولما كان الحدثان يفصلهما جدار عازل من الزمن والمناسبة، فإن بديهية الفطرة الإنسانية تقضي بأن يتعامل المرء مع كلا الحدثين بإيقاع نفسي مختلف، فيحزن مع من يحزن وقت الحزن، ويفرح مع من يفرح وقت الفرح، ولا يملك المرء السوي سوى أن يكون كذلك، بل لايجوز له أن يكون سوى ذلك، ومخالفة هذا (الناموس الاجتماعي) سفه في الحلم، وقصور في الحكم، وعوج في السلوك!
**
* لكن ما قولكم يا سادة فيمن يخالف تلك (القاعدة)، فيمارس الفرح في مجلس عزاءٍ يتعين عليه فيه التزام قدر من الصمت احتراماً لهيبة الموت ورهبة المكان ومشاعر أهل العزاء! ثم يذهب نفس هذا الآدمي مشاركاً في (فرح) صديقٍ أو قريب، فينتبذ مكاناً وسط الزحام.. ويلوذ بصمت أهل القبور مطرقاً، كأنه يحمل على رأسه جبلاً، وقد يختلس النظر إلى ضيف آخر مرةً ذات اليمين وأخرى ذات الشمال.. عله يشهد ابتسامةً أو يسمع كلمة فرحٍ أو يرى إيماءة تحيةٍ تحرره من زنزانة صمته، فلا يجد لمبادرته مجيباً، ويقرر أن يبقى حبيس مقعده حتى يأذن صاحب الدعوة بالعشاء.. وقد ينصرف قبل ذلك زهداً في اللقاء والعشاء معاً!
**
* بحثت هذه الخاطرة مرةً مع صديق فقال: لست وحدك الذي يشده العجب لمثل هذه الأنماط المتناقضة من السلوك.. والأغرب من هذا كله أن هناك صنفاً من الناس لا تستيقظ فيه صحوة الإنسان الاجتماعي إلا حول القبر.. تراه يصول ويجول عبر صفوف المشيعين.. يعانف هذا، أو يعاتب ذاك.. ويلهو بلغو الكلام مع ثالث مذكراً إياه بسالف الأيام.. وقد يتمنى على مشيع رابع أن يمنحه (وعداً) للقاء يتخلله غداء أو عشاء.. وقد يختم (مداخلة الفرح) حول القبر، فينعت اللقاء ب (الفرصة السعيدة) قبل أن يرشق صاحبه بتحية وداع باسم!
**
* وبعد..
* .. تُرى متى يغادر التخلف مغارة الوجدان في أعماق بعضنا.. فيفرق بين لوعة الحزن، وروعة الفرح!؟ متى تستيقظ في وجداننا صحوة الفرح وقت الفرح، ومتى يستجيب هذا الوجدان لنداء الحزن وقت الحزن، فلا يخلط بين الاثنين، فإن لكل مقام مقالاً!