هو صاحب البيت القريب، أو الملاصق لقصر (المصمك)، الذي دخل منه الملك الموَحِّد عبدالعزيز بن عبدالرحمن، ورفاقه من صفوة فرسان آل سعود، إلى داخل القصر، وأنجزوا عند الفجر أول عمليةٍ فدائية جعلت من بلادنا أنموذج الوحدة الوطنية الأول منذ فجر القرن الماضي، وإلى الأبد بإذن الله. ولا تزيد الكتب التاريخية عن أن (جويسر) كان تاجر مواشٍ معروفاً، وأنه كان على معرفةٍ قديمةٍ بآل سعود؛ فلما طرق الملك عبدالعزيز عليه الباب، في وقت متأخر ليلة الخامس من شوال سنة 1319هـ، عرفته بعض نساء جويسر، لأنهن كنَّ على علاقة بأسرة آل سعود. وأن (جويسر)، خرج من داره، وبات تلك الليلة في (ظهرة البديعة)، بعيداً عن المصمك.
هذا هو كل ما تقوله المراجع التاريخية ولكن كاتب السطور وقع في خطأ فادحٍ، ما كان له أن يقع فيه، ولم يجد له تفسيراً ولا تبريراً، حيث زلَّ قلمه في مقالٍ بعنوان: (ليلة الخامس من شوال)، نشرت في زاويته (بعد النسيان) في جريدة الوطن، يوم 5-10-1428هـ، فوصف (جويسر) بأنه كان (مملوكاً) لآل سعود! ولم يكن ذلك صحيحاً إطلاقاً، فلم يكن (جويسر) مملوكاً لأحدٍ أبداً، ولا يملك كاتب السطور إلا الاعتذار الشديد لآل جويسر الكرام عن هذه الزلَّة الفادحة، مبدياً استعداده لتحمل المسؤولية كاملةً عنها، وشفعاؤه إليهم ثلاثة:
1- حسن نيته، إذ لا يربطه بهذه الأسرة الكريمة أية علاقة تدعوه لتعمد الإساءة إليهم.
2- أستاذه الفاضل سليمان العقيلي -نائب رئيس تحرير جريدة الوطن، الذي لم يطِّلع على المقال إلا بعد النشر، وإلاَّ لما سمح به، فهو يعرف هذه الأسرة الكريمة عن قربٍ، ويعرف فضل أبنائها في الوطن كله.
3- جريدة (الجزيرة) الغرَّاء التي اختارها الأستاذ فهد بن إبراهيم الجويسر، مفوَّض أسرته الكريمة، بل ومفوَّض الكاتب المعترف بذنبه، لتصحيح الخطأ، وإبداء الاعتذار الصادق، رغم أن الزلَّة وقعت في صحيفة الوطن، لكن الأستاذ فهد يرى أن الجزيرة هي الأنسب، والأكثر مقروئيةً وانتشاراً في المنطقة.
ومع أن الكاتب المقر بذنبه، على يقين بكفاية هؤلاء الشفعاء الثلاثة، إلا أنه سيضيف شفيعاً رابعاً، لينزع خنجر الإحساس بالذنب من قلبه نهائياً، هذا الشفيع هو (جويسر) نفسه -رحمه الله- فالذين يعرفون هذه الأسرة الكريمة من قريب، كسليمان العقيلي، يؤكدون أنه ورَّثهم أخلاقاً عاليةً، تجعلهم يعفون عند المقدرة، عمَّا هو أكبر من هذه الزلة التي لم يكن لها أن تكون، فبحق (جويسر)، ووطنيته التي ترفع الرأس، اقبلوا العذر يا آل جويسر، ولكم الفضل والمنة من كاتبٍ لا يعرف كيف وقع في تلك الزلة!
ولعلها فرصةٌ مناسبةٌ -ونحن نستعيد ذكرى توحيدنا المجيدة- أن نسلِّط الضوء أكثر لنستشعر أهمية ما قام به (جويسر) من تضحية للوطن تلك الليلة، فاستحق تكريم الأسرة المالكة الكريمة، والوطن كله، في الذكرى المئوية لفتح الرياض سنة 1419هـ.
ولنبدأ قراءتنا من حيث توقف المؤرخون، أي من لحظة قرار جويسر مغادرة داره، والاتجاه إلى (ظهرة البديعة)، والسؤال هو: لماذا لم يمنعه الملك عبدالعزيز، ويحبسه كما حبس البعض في غرفهم؛ حتى لا يثيروا أية شوشرةٍ قد تكشف أمر الملك عبدالعزيز؟ والجواب، بكل وضوح أن الملك عبدالعزيز كان يثق في إخلاص هذا الرجل، وكان مطمئناً أنه لن يشي بهم -مثلاً- عند حاكم المصمك، ليظفر بحظوة يتمناها الكثيرون، بحكم بشريتهم وضعفهم الإنساني، كما فعل أحد أبطال غزوة بدرٍ الكبرى، أي المغفور لهم ما عملوا بعد تلك الغزوة، الصحابي الجليل (حاطب بن أبي بلتعة) -رضي الله عنه- الذي كتب رسالةً إلى مشركي قريشٍ، يبلغهم بنية النبي -صلى الله عليه وسلم- لغزوهم، وفتح مكة، وتطهيرها من الشرك إلى الأبد، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم، عن طريق الوحي، أمر عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يدرك المرأة التي كانت تحمل الرسالة في شعرها، ثم استدعى حاطباً - رضي الله عنه- وسأله: ما حملك على ذلك؟ فقال: والله ما حملني عليه خيانةٌ لله ورسوله، ولكني امرؤ ضعيفٌ لا قبيلة لي تحميني، وأهلي ما زالوا في مكة، فأردتُ أن تكونَ لي عليهم يدٌ، يذكرونها فلا يتعرضون لأهلي بسوء! فسامحه عليه الصلاة والسلام، وأخبره أن الله غفر له!
لم يفعل (جويسر) ما كان يمكن أن يفعله من هو في مكانه، لأن ولاءه لوطنه في شخص موِّحدنا العظيم كان أكبر من أي شيطان!
والسؤال الآخر هو: ما حكمة (جويسر) في مغادرة داره والاتجاه إلى ظهرة البديعة؟ لماذا لم يحبس نفسه في داره حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً؟
وهنا قد يفهم من بعض كتب التاريخ، أن الرجل خاف على نفسه وأولاده من بطش الحاكم، فيما لو فشلت خطة الملك عبدالعزيز في استرداد ملك آبائه وأجداده، فاهتدى إلى هذه الحيلة الوسط: فإن انتصر عبدالعزيز، فهو ما يتمناه، وموقفه واضحٌ، ومكانته عنده لن تتأثر، وإن أحبط حاكم القصر الخطة، أمن (جويسر) بطشه، لأنه لم يكن موجوداً في الدار، وسيصدقه أن عبدالعزيز وأعوانه، اقتحموا الدار في غيابه، فيخلي مسؤوليته وتسلم رقبته وأسرته من مصيرٍ محتوم!
ولا لوم على (جويسر) لو فكَّر على هذا النحو، ولكن حيثيات المشهد التاريخي تقول لنا: إنه قام بذلك -وسمح له عبدالعزيز- حمايةً للخطة المباركة، فقد كان (جويسر) متعهداً تمويل القصر بما يأمر من ذبائح، كان يقدمِّها رغماً عنه في الغالب، وكانت الأوامر تأتيه في أية ساعةٍ من الليل أو النهار؛ يؤكد ذلك أن الملك عبد العزيز، حينما طرق الباب عليه، سألته إحدى النساء: من بالباب؟ فقال: أنا (مطرف)، مرسلٌ من الحاكم إلى جويسر لإعداد ذبيحة، وإلاَّ فإن الحاكم سيقتله صباحاً! فخروج (جويسر) كان مهماً حتى لا يفتح الباب لأي طارق، بحكم أنه غير موجود، وبالتالي لن يلاحظ الطارق أي حركةٍ مريبةٍ، قد تثير الشكوك، وكانت تضحيةً ذكيةً منه أكثر من كونها استجابةً لغريزةٍ الخوف والترقب. وما يزيد هذا الرأي وجاهةً ما أوردته بعض الروايات من أن (جويسر) لم يغادر داره حتى قام بواجب الضيافة للملك عبدالعزيز ومن معه. وبذلك يكون قد أسهم في توحيد هذا الوطن، مساهمةً قدَّرها حكَّام هذه البلاد فكرَّموه في أشخاص أحفاده الكرام، بوصفه نموذجاً للمواطن المخلص الوفي، الذي وضع مصيره على كفِّ عفريت، كما يقولون،
{وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
الكاتب في الزميلة (الوطن)