Saturday 11th September, 1999 G No. 9844جريدة الجزيرة السبت 1 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9844


لتحرير الوهم العامي من عقدة اسمها الحداثة ,.
الحداثة,, مفهومها,, وأبعادها ,, وأسباب غموضها
(الحلقة الأولى)

ابتداء : يلاحظ الناقد الذي يرهف سمعه للأصوات المتداخلة في الوسط الشعبي ما صدح منها وما خفت عدم فهمها لماهية الحداثة، ولحقيقتها,,
إلا قلة قليلة من المثقفين نستثنيهم من ذلك الجمع,, ولهذا رأينا أنه من الواجب طرح هذه القضية, ومناقشتها بعمق حتى تتضح الصورة، وحتى تصبح الطرق معبدة للدخول والخروج من وإلى الحداثة.
وقبل الدخول في دهاليزها، هناك مغالطات صريحة، لايعجز الملاحظة رصدها، ومن ثم إزالتها بتوضيحها,, منها أن الحداثة عند غالبية المتطرقين لها - وخصوصاً الناقمين عليها - تأخذ معنى مرادفاً عندهم ل الغموض ,, فكل شعر غامض يطلقون عليه صفة الحداثة، مع أن الحقيقة غير ذلك، وما كان ذلك التصور إلا نتيجة للفهم القاصر، والإدراك السطحي.
ومن هذه المغالطات أيضاً أن (الحداثة) تعرف لديهم بأنها الشعر غير العمودي,, فشعر التفعيلة مثلاً هو حداثي عند الغالبية العظمى، مهما كانت درجة عبثيته وبعده عن مقاربة الشعر الحقيقي,, لدرجة أنه أصبح في فهمهم عدم القبول - أو استحالة - أن يكون الشاعر حداثياً وهو يكتب الشعر العمودي,, مع أن الحقيقة غير ذلك.
لذا نرجو من كل مهتم بالحداثة أن يستمع لهذه السطور (وليس يسمع) - مع الإلمام بعدم ادعائنا للصواب المطلق في هذه الأسطر، وإنما نرجو حملها على محمل الاجتهاد فقط - نرجو الاستماع بقصد الفهم,, لابقصد الخلاف وتحويل الصفحات إلى ساحات للمعارك، أو حلبات للملاكمة,, فالقضية فكرية أولاً وأخيراً، وأدبية انسانية في جوهرها,, لها تأثيرها في الواقع الذي من سماته أنه لايتشكل ولاتتضح معالمه إلا بعد أن يعيش عمره الافتراضي من الزمن، وبعد أن يحتل مكاناً راسخاً في الذاكرة الأدبية عند الجميع,.
وحتى يصبح مألوفاً كالأمور الاخرى المألوفة التي استوعبتها الذائقة الشعرية وتمثلتها.
كما نرجو عدم إغفال قانون التطور الطبيعي ، الذي لايغادر شيئاً بما في ذلك الشعر الشعبي، لنسير على هدى من الفكر الذي ينشد الوضوح، ويمقت الخرافة.
* فما هي (الحداثة) عموماً؟ وما مدى شمولها وعموميتها؟
الحداثة مفهوم له تعريفه المحدد، وله شروطه التي بدونها تنتفي صفته عن العمل او النتاج الادبي، وهي من المفاهيم التي يخوض فيها كثير من المتأدبين بدون فهم عميق لها، وبدون فهم لتعريفها على أقل تقدير.
وهي في الحقيقة ماهي إلا مفهوم لمرحلة من مراحل التطور والتقدم الانساني والتراكم المعرفي والإبداعي,, فكان لهذه الادوات ومعها غيرها من إبداعات الفكر اليد الطولى في ولادة مرحلة (الحداثة).
ومن إيضاح الواضحات القول: ان الحداثة ليست مختصة أو مقتصرة على الشعر,, أو الأدب فقط,, وهذه أول خطوة يجب ان يعلمها ويدركها السطحيون ليتجهوا إلى العمق قليلاً,, فهي شاملة لكل مناحي الحياة ، وتمس كل جوانبها، من أدب، وصناعة، وتجارة، وطب,, إلى غير ذلك، فهي باختصار تكون لكل ما يمكن ان يبدعه الفكر الانساني في أي مجال من مجالات الحياة، ولكن بشروط محددة، ومعينة، وواضحة.
وهنا ندلف إلى بوابة السؤال الكبير الذي تستظل الساحة الشعبية بظلاله وهو:
لماذا لاتفهم غالبية الناس (الحداثة)بعمق، وعلىحقيقتها المجردة؟,, وخصوصاً من تصادفهم قضيتها مراراً وتكراراً,, ونطرح السؤال السابق نفسه ولكن بصورة اخرى: ماالسبب الحقيقي وراء غموض (الحداثة) في وعي الغالبية منا؟
نقول - وندعو الله ان يستمع (وليس يسمع فقط) من يهمه هذا الطرح - نقول ان الحداثة قد أتت الينا في الأصل - من الغرب,, فتلقيناها وسارت خطانا على نهجه في تعريفها,, وأن هذا (الغرب) - كما يمليه الواقع - متقدم صناعياً، واقتصادياً، وفكرياً,, و ,,أدبياً,, إلى آخر القائمة.
وهذا يقودنا إلى نتيجة طبيعية ، وهي ان المجتمع الغربي قد فهم الحداثة (شعرياً) لأنها قبل ذلك قد شملت جميع أوجه الحياة عنده,, وما الشعر إلا واحد منها,, فالعملية تكاملية, وفهمه للحداثة لم يكن مقتصراً علىوجه واحد دون الأوجه الأخرى,, مما مكن افراد هذا المجتمع من استيعابها بصورة كاملة، لتعاضد تقدمها علىجميع الأصعدة، ولتفاعلها في الأوجه المختلفة على حد سواء.
اما الوضع لدينا عموماً,, فمختلف جداً عن ذلك الذي في الغرب,, ومن لايستطيع منا فهم الحداثة واستيعابها فهو معذور، ومعذور، ومعذور,, والسبب لأن الحداثة لم تأته إلا في اشكال الشعر ومضامينه فقط,, وذلك نتيجة لتأخر الجوانب الأخرى لدينا عن مواكبة التقدم والتطور,, فنحن متأخرون صناعياً,, واقتصادياً (من جهة مستوى الوعي الشخصي),, إضافة إلى كثير من أوجه الحياة المختلفة,, ولم نتقدم إلا في مضمار الشعر فقط.
وبميزة تقدم الشعر لدينا نحن العرب عموماً، ولتفوقنا في مجاله منذ العصر الجاهلي (وهو يكاد يكون الفن الوحيد الذي اتقناه اتقاناً لامثيل له),, بهذه الميزة المؤهلة دخل الشعر وحده مرحلة (الحداثة) كخطوة طبيعية تساير نضجة وتقدمه، ولكن المشكلة كانت في أن ذلك الدخول كان في الوقت الذي لم يدخل أي من أوجه الحياة الاخرى لدينا في هذه المرحلة، ولم يواكب اي منها نفس التقدم,, بل كانت جميعها في تأخر كبير.
فمن هنا دخل (اللت والعجن) وعدم الفهم لحداثة الشعر,, وهنا أيضاً يكمن السبب الحقيقي وراء غموض الحداثة على أعداد كبيرة من المتحدثين عنها.
فالمبدع المثقف في الأدب قد ساير المرحلة وفهمها واستوعبها وأبدع فيها,.
اما الذي لم يراقص الادب افكاره، ولم تطارح الموهبة خياله، فهو لايصدق بما يتحدثون عنها من أن هناك مرحلة قد دخلت اسمها الحداثة ,, وهو معذور ، إلا من جهة عدم تطوير آلية فكره لاستيعاب الجديد ,, فكيف يصدق بشيء لايلمسه ولايحسه ولايعايشه؟,, فمن الصعوبة البالغة أن يصدق بخبر مرحلة أتى بها انسان مثله (وهذا الانسان لم يكن نبياً مرسلاً ليحمل نفسه على تصديقه),.
وهذه المرحلة هي في الحقيقة غيباً عنه,, بل هي من الغيبيات التي لايصدق بها بسبب عدم معايشته لها في أي وجه من أوجه حياته المختلفة وبسبب جمود آلية فكره عن الحركة في اتجاه التقدم,
فكما اتضح لنا مما ذكرنا سابقاً، كان سبب اختصاص الحداثة في وجودها لدينا في مضمار الشعر فقط، لأن الشعر هو الفن الوحيد الذي قد نضج واشتد عوده,.
فمثلما أن الطعام إذا نضج علىالنار أتى بنكهة جديدة غير تلك التي كانت فإن هذا الوصف ينطبق تماماً على الشعر، وذلك لأنه عندما نضج في الفكر أتى بنكهات متعددة,, وما الحداثة إلا إحدى هذه النكهات التي قدمها الزمن,.
الذي هو أكبر وأقوى منضج للأشياء والأمور والناس.
وختاماً لما سبق,, نوضح أن الحداثة مرحلة لانعايشها وحدها الآن لان الزمن قد تخطاها إلى مرحلة اخرى ، هي مرحلة مابعد الحداثة .
وهذه الأخيرة ايضاً ليست هي الأخيرة حالياً,, فقد تخطاها الزمن إلى مرحلة نعايش الآن طلائع النجائب من لحظاتها المتوثبة,, هي مرحلة العولمة ,, وكل مرحلة والجميع بخير.
***
** أما ماهي الحداثة الشعرية؟ وما أهم شروطها؟ وما أهم مايميز الشعر الحداثي؟ وما أهم الشروط لكي يكون الشاعر حداثياً؟
** هذا ما سنتناوله بالتفصيل في الحلقة القادمة.
نيف الذكري

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
حوار
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved