* - القاهرة - مكتب الجزيرة - شريف صالح
للدكتور عبدالغفار مكاوي عشرات الكتب المؤلفة والمترجمة,, فهو أديب ومترجم واستاذ جامعي ودارس للفلسفة,, عمل بالعديد من الجامعات العربية وآثر حاليا نوعا من العزلة الاختيارية,, جاء من ريف الدلتا منذ نصف قرن ليكون شاهدا على عصر ثقافي باكمله ومعبرا عن ضمير الاستاذ الجامعي الذي يحلم بغد اكثر ثقافة,, اكثر نزاهة اكثر حرية.
هذا الحوار الذي خص به الجزيرة اسئلة بتجوال في محطات العمر اشبه بشهادة للتاريخ.
محطات العمر
* بعد هذا العمر المديد في رحاب الثقافة ، ما هي اهم المحطات في مشوار عبدالغفار مكاوي؟
- بعد تخرجي من كلية الآداب جامعة القاهرة في سنة 1951م عملت بدار الكتب المصرية الذي اختبرني للعمل هو الرائد العظيم توفيق الحكيم ثم حصلت على منحة للدراسة في المانيا لمدة عام وبمجرد السفر استطعت ان امد المنحة وان امكث هناك عدة سنوات حصلت خلالها على درجة الدكتوراة وعدت بعدها للعمل في مهنة التدريس الجامعي والترجمة والتأليف في الفلسفة والادب حيث عملت بجامعات القاهرة والخرطوم واليمن والكويت التي قضيت فيها تسع سنوات وحاليا تفرغت تماما للكتابة والتأليف والترجمة ولا ابغي سوى الستر الذي يطمح اليه كل الادباء العرب.
* اثناء عملك بدار الكتب كانت لك علاقة حميمة مع توفيق الحكيم,, ماذا اتذكر منها الآن؟
- افضل ما استفدته من هذا الرائد العظيم هو لقاءاتي المستمرة معه، حيث كنا نلتقي يوميا بعد انتهاء فترة العمل الرسمي حيث يطلبني قائلا: هاتوا لي عبدالغفار، فأذهب اليه انا الشاب الصغير وهو الكاتب الكبير ونظل نتحدث معا باستفاضة عن الادب العالمي واهم الترجمات وغير ذلك واذكر انه اثر عليّ اكبر تأثير وللاسف نصحني نصيحة غالية لكن لم استمع اليها فقد اقترح عليّ ان اصرف النظر عن الجامعة واتفرغ للكتابة الادبية ولكن حصولي على الدكتوراة جعلني اعمل في مهنة التدريس الجامعي التي اعتبرها الغلطة الكبرى التي سرقت من حياتي ثلاثين عاما في حقل التعليم العقيم والمتخلف.
مترجم مشهور وأديب,.
* المعروف عنك انك مترجم قدير عن اكثرمن لغة ولكن الجانب الابداعي في حياتك شبه مجهول ولا يعرف الكثيرون انك تكتب المسرحية والقصة مثلا,, فلماذا؟
- هناك سببان لهذا,, ابدأ بنفسي فاقول انني رجل بطبيعتي وفطرتي احب البعد عن الاضواء والعمل في الظل وفي صمت ومن حسن حظي وسوئه في نفس الوقت انني لست نرجسيا بالقدر الكافي كي اهتم بنفسي ولا يخطر ببالي ان اتحول الى جهاز علاقات عامة كبعض الادباء,, لا احد يكره الشهرة على العموم,, وبالفعل اتمنى ان يصل بعض انتاجي الى العامل والفلاح واي قارىء عادي، ولكني قصرت في حق نفسي ولم اركز التركيز الكافي على الابداع القصصي والمسرحي لان التعليم الجامعي التهم حياتي ولانني لغبائي الشديد اعطيته كل جهدي بحيث لم يترك لي الا لحظات خاطفة للكتابة في هذا كله لا القي الذنب على احد ولا اتبرأ من ذنبي.
بالنسبة للسبب الآخر، فاظن انني وقعت فيما وقع فيه استاذي وصديقي واخي الروحي المرحوم شكري عياد فقد طغت اعمالي الدراسية وترجماتي على كتاباتي الادبية المتواضعة,, فلم يهتم احد بشكري عياد القاص والمبدع ربما لان النقاد خافوا من ان ينقدوا ناقدا عظيما مع انه في تقديري احد اعلام القصة القصيرة في العالم العربي وله ست مجموعات متميزة بحسها النقدي ولغتها المتألقة وتعاطفها الانساني مع الشخصيات, اعني باختصار ان الحياة النقدية ربما كانت مسئولة عن تجاهل اعمال شكري عياد واعمال عبدالغفار مكاوي وغيرنا من اساتذة الادب والنقد,, ربما تكون اعمالي متواضعة لكن لا استطيع التعميم,, فهناك اكثر من عشرين نصا مسرحيا منشورا لي مما يجعلني اتساءل: اين هو المخرج الذي اهتم يوما باخراج مسرحية لي على احد مسارح الدولة؟ واين الناقد الذي فكر في الكتابة عني ككاتب وليس كأستاذ جامعي,, فليكتب عني ولو بالهجوم والنقد الشديد فذلك كفيل بتحريك مياهي الابداعية ولكن حتى هذا لم يحدث!! باستثناء ماكتبه عني شكري عياد عجلة الهلال.
* هل عدم الكتابة عنك يعني ان تتوقف الابداع؟
- بالعكس ، انا عازم بمشيئة الله على التركيز في البقية الباقية من ايامي على الجانب الابداعي وارجو الا يكون الوقت قد تأخر تماما، حيث قاربت على السبعين ولكني مؤمن بان جذوة الابداع لا يطفئها تقدم السن وانما يطفئها التشتت والتبدد الذي يدمر حياتي وحياة غيري الثقافية.
* تقول انك ستتفرغ للابداع,, فهل ما تبدعه حاليا - بعد هذا العمر - يلقى سهولة في النشر؟ او بمعنى ادق ما هي علاقتك بالنشر؟
- مازلت اطبع كتبي على نفقتي ومن قوت اولادي، فاين هي الجهات التي ترعى اعمالنا المؤلفة والمترجمة؟
لا تصدق ما يقال انه ليس لدينا ازمة في النشر، فما اكثرالكتاب الشباب الذين ينشرون اعمالهم من قوتهم ودمهم لان الناشر الجشع هو تاجر ورق قبل ان يكون مثقفا، واخر كتاب دفعت به الى النشر اعطيت الناشر اربعمائة جنيه كمساهمة في تكاليف الطباعة، في حين ان الناشر في الخارج مثل جاليمار او روفولت وروزكامب في المانيا او ماكميلان في انجلترا جميع هؤلاء يتعاملون بمنطق مختلف, فروزكامب كان يعطي مرتبا شهريا لبريشت كي يتفرغ للكتابة والآن يجني الملايين من وراء بريشت هذه الدور تقدر معنى ان تكون كاتبا ويجزون المبدع بما يغنيه عن المرمطة في سبيل لقمة العيش.
ملاحظات على الواقع الثقافي
* بعد ما يقرب من خمسين عاما في رحاب الثقافة ,, كيف ترى الواقع الثقافي حاليا؟
- لي بعض الملاحظات على واقعنا الثقافي,, بداية لدينا مثقفين من كل الاجيال يستحقون مني ومن كل منصف كل التقدير والحب ولكن ليس لدينا حياة ثقافية بالمعنى الحقيقي لاسباب معقدة ومتشابكة, ربما لطغيان سياسات الانفتاح والبزنس على الحياة الثقافية سواء بالاضطرار او الاختيار، وربما لغياب القيم الكبرى التي عاش جيلي في ظلها قيم التفاني والاخلاص والعمل من اجل العمل ذاته والوفاء للتراث والاساتذة وللغتنا العربية.
وربما من الاشياء التي يعانيها الواقع الثقافي ايضا هو تزايد كم المهارات التقنية والفنية نتيجة لطغيان الثرثرة من كل الاتجاهات فاضطربت الاحوال وضاع كثير من اصحاب المواهب بدعوى التجديد والحداثة ونسي الشباب ان يكلفوا انفسهم عناء التثقيف الذاتي الجاد والمنضبط, واضطرتهم لقمة العيش - حتى لا نظلمهم - الى سلق اعمال لم تنضج وقذفها في وجه القراء على انها اعمال حداثية واغلبها لا ينتمي الى الفن بصلة.
* اثمة ملاحظات اخرى على واقعنا الثقافي؟
- الثرثرة الاعلامية التي اقتحمت حياتنا كأدباء ومع احترامي للاعلام ورجاله فانني ارى ان يراجع الاعلاميون انفسهم ويكتفوا بالترويج للاعمال الجادة, وهذه مهمة اساسية لايستغني عنها اي اديب بشرط الا تتحول اجهزة الاعلام الى منابر لمن لا هم لهم الا القفز على الاكتاف واللهاث وراء الشهرة.
* وماذا يفتقد ابناء الجيل الحاضر مقارنة بجيلكم مثلا؟
- يفتقد ابناء الجيل الحاضر الى القدوة الحسنة المعبرة في اساتذة عظام كان من حسن حظي ان تتلمذت على يد بعضهم فعندما كنت ادخل الى كلية الاداب كان كياني كله يهتز ويرتجف عند ما ارى طه حسين او احمد امين - هذا الشيخ الجليل بنظارته السميكة وظهره المحني من الاعياء والجهد المخلص في سبيل تاريخ الثقافة العربية والاسلامية - وكذلك امين الخولي هذا الفارس الفلاح النادر المثال الذي غرس فينا شجاعة النقد بجانب اساتذة قسم الفلسفة العظام, يوسف مراد وعثمان امين وعبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود، فهؤلاء جميعا حركوا فيّ جمرات الشوق للمعرفة الموسوعية بالثقافة.
|