اتجهت قُبيل الظهيرة من مدريد الى طليطلة بالسيارة، وهي جنوب مدريد بانحراف يسير الى الغرب على بعد 95 كيلومترا، وذلك في يوم السبت الموافق 25/4/1420ه، 7 تموز 1999م، وكان الاتجاه الى مسجد باب مردوم مسكيثة لكريستودلالموت ، أو ساتناكروث ,, وبناؤه- كالعادة في معظم المباني الأندلسية- من الآجُرّ الطوب الأحمر ، والحجر الجرانيتي,,والآجر رمل وجبس مطبوخ، ويعبر عنه بعض المعمارين بالمشوي.
والمسجد صغير المساحة مستطيل، عرضه ثمانية أمتار، وطوله اثنا عشر مترا (2) ، وقد بقي من طوله ستة أمتار، والباقي اقيم عليه كنيسة قبلته,, واسطواناته من الرخام,, والأندلس ثرية بالأحجار النفيسة للعمارة والصناعة,, قال ابن سعيد:وبالأندلس عدة مقاطع للرخام، وذكر الرازي: أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع والخمري، وفي ناشرة مقطع عجيب للعُمُد، وبباغة من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة موشاة في حمرة وصفرة، وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزع (3) .
ويقع المسجد على شارع عرضه سبعة أمتار يعرف باسم الكريستودلالوث ,, أي صليب الضوء.
ويعلو واجهة المسجد - أي جدار مدخله المقابل لجدار القبلة زخرف عليه نقش لم نستبن جميع كلماته؛ لتآكل الزخرفة، وعدم ترميمها، ولكن الدكتور السيد عبدالعزيز سالم يسَّر لنا المهمة وصفا ونصا؛ فقال:يعلو واجهة الجامع نقش كتابي تاريخي من قطع آجرية بارزة في إفريز يقع بين صفين من الأسنة البارزة من نفس هذه المادة، ونصه:
بسم الله الرحمن الرحيم أقام هذا المسجد أحمد بن حديدي من ماله ابتغاء ثواب الله فتم بعون الله على يدي موسى بن علي البناء وسعادة فتم في المحرم سنة تسعين وثلاث مائة (4) .
وابن حديدي قاضي طليطلة، وقد قتله سنة 472ه أشأم ملوك الطوائف القادر بالله يحيى بن ذي النون، وأحال الدكتور السيد عبدالعزيز سالم ترجمة ابن الحديدي الى الذخيرة لابن بسام، وأعمال الأعلام لابن الخطيب.
وينص أدلّاء السياح على أنه أقدم مسجد في طليلطة.
قال أبوعبدالرحمن: هذا صحيح بالنسبة للآثار الموجودة المكتشفة,, أما مطلق الأقدمية فتبدأ بطارق بن زياد قدس الله روحه.
والمسجد مزين بأقواس مدببة متداخلة على الطراز الأموي القديم كما أخبرني الدكتور فواز، وهو ذو تخصص في العمارة.
وسقف المسجد بالجملوني بطراز أندلسي من الآجر تيخا .
وأرضيته مبلطة بالرخام المرمري الأصفر والأحمر.
قال أبوعبدالرحمن: وكل مسجد أثري دخلته صليت به ركعتين على الرغم من وجود الكنائس فيه؛ وذلك لفضل الصلاة في الكنائس العتيقة,, وعمر رضي الله صلى في الكنيسة,, ومع كثرة غفلتي ودعابتي ومرحي وتوثبي لتجليات الفن فقد أخذتني في صلاتي في هذا المسجد بالذات خشية ماعهدتها من نفسي إلا في القليل، وإنني لأرجو بها رحب المنقلب عند الله سبحانه,, وجاء الخشوع والخشية من خواطر أطبقت على ذهني من جراء مساجد وعمائم وعلماء عمّر الله بهم هذه البقعة ردحاً من الزمان، ثم اظلمت منهم البقعة بكل أغلف رجس نتن عدو لله,, مع رقة ورحمة كسرت قلبي للعرب والمسلمين المغلوبين عسكرياً وعلمياً، المهزوم أكثرهم روحيا,, مع مشاعر أخرى غامضة لا استطيع تفسيرها اخذتني منها قشعريرة.
قال أبوعبدالرحمن: ومع هذا الشجن صور للأشكال التالية:
(1) أحد الأقواس داخل المسجد في أقصى القبلة من الموجود بالمسجد أمام اسطوانتين رخاميتين.
(2) النقش الكتابي المتآكل في واجهة المسجد.
(3) ثلاثة أقواس داخل المسجد.
(4) رواق المسجد القبلي ايمن الشرق وأيسره الشكل الأول.
(5) قوس أيسر القبلة يدخل إليه منه من تلك الجهة.
قال أبوعبدالرحمن: وما قصر في أدائه دليل السياح الذي يترجم لي من فيه النتن في المسجد المقدس الدكتور فواز فإنني استكمله من استطلاع الدكتور سالم، فقد ذكر ان النسبة الى باب مجاور للمسجد يعرف باسم الباب المردوم لا يزال قائماً، وقال: يتكون من ثلاثة أروقة طولية تقطعها ثلاثة أروقة عرضية؛ بحيث يحدث عن ذلك التقاطع تسع أساطين تفصل بينها أربعة أعمدة تيجانها قوطية قديمة يتفرع منها اثنا عشر قوسا على شكل حذوة الفرس,, ويعلو كل اسطوانة من الأساطين التسع قبة تتقاطع فيها الأقواس,, والقبة الوسطى أكثر من القباب الأخرى ارتفاعا,, ونظام التقبيب يقوم على تقاطع الضلوع المتجاوزة في صور مختلفة: منها ما يمثل شكلا رباعيا منحرفا ذا أقطار بحيث يبدو كما لو كان قبوين من الطراز القوطي إحداهما داخل الأخرى، ومنها ما يبدو على شكل مثمن، ومنها ما يقلد تقاطع القبة المحزمة الكبرى بجامع قرطبة (5) .
قال أبوعبدالرحمن: العرب في الأندلس وُرَّاث حضارة معمارية رومانية، ثم قوطية، ولكنهم أتقنوا البناء بسواعدهم ومهاراتهم، وصمموا الرخام والحجر والآجر والبلاط، واستبقوا ما يروقهم من الأشكال، وزينوا البناء بزخارفهم الفنية البعيدة عن التماثيل وصور ذات الأرواح، والبناء موسى بن علي وهو اسم عربي.
ومما لم يذكره السيد الدكتور عبدالعزيز سالم آثار فناء المسجد من مغاسل للوضوء وبئر بنيت فوهتها بالجس والآجر.
وكلمة سعادة في النقش بواجهة المسجد معطوفة على عون بمعنى: واسعاد من الله.
حواشي:
(1) أتاح لي هذه الرحلة المباركة صاحبا السمو الملكي الأميران الجليلان نايف وسلمان ابنا عبدالعزيز آل سعود -حفظهما الله-,, وسيّر معي سمو الأمير سلمان الدكتور فواز أحمد فاتح كيالي، وهو مهندس معماري أعد رسالة الدكتوراه عن الحمامات بالأندلس باللغة الأسبانية,, وسمت همتي الى حصر ببليلوجرافي للأعمال الأسبانية التي لم تعرب عن المسلمين بالأندلس، والى حصر الآثار والمؤلفات العربية والإسلامية الخطية بالأندلس، والى ترجمة كتاب آسين بلاثيوس عن ابن حزم ونقذه للأديان,, وقد تكفل سموه بنفقة كل ذلك، وأمَّن للدكتور فواز جهاز كمبيوتر للطباعة بالعربي والإنجليزي ليباشر مهمته، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
(2) جعل الدكتور عبدالعزيز سالم عرضه طوله,, أي 8مx8م، وقال- بكتابه تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي حتى سقوط الخلافة بقرطبة ص403 نشر مؤسسة شباب الجامعة بالأسكندرية عام 1999م بالاسكندرية طبع دار الهناء-:حُوِّل هذا المسجد الى كنيسة، وأضيفت إليه في الجانب الشرقي حنية مدجنة .
قال أبوعبدالرحمن: هذا تضليل من ادلاء السياحة، بل طوله 12 مترا، وقد اتخذت قبلته بمقدار 4x8م كنيسة والباقي بحسبه مسجد أثري للسياح, وعنوان كتاب الدكتور فيه قصور؛ لأن مادته استمرت الى سقوط غرناطة، وهو يكاد يكون طبعة ثانية لكتابه الآخر في تاريخ وحضارة الإسلام في الأندلس, صدر عن المؤسسة المذكورة آنفا عام 1985م, وفاته مسجد في طليطلة لم يكتشف إلا عام 1991م.
قال أبوعبدالرحمن: وكل كاتدرال كنيسة كبيرة أثرية في طليطلة القديمة فمن المرجح أنه على أنقاض مسجد اسلامي كبير، ولكن السياحة هناك تخفي ذلك ولا يبعد ان مسجد باب المردوم اتخذ كله في وقت مضى كنيسة دون تغيير في جوهره؛ فقد ذكر الدكتور عبدالعزيز في كتابه تاريخ المسلمين ص403: أنه حوّل الى كنيسة بعد استرداد قشتالة لطليطلة بقليل، وأن الفونسو الثامن لعنه الله وهبه لاحدى الجمعيات الدينية.
(3) نفح الطيب 1/201 تحقيق الدكتور إحسان عباس دار صادر بيروت سنة 1997م.
(4) تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس ص403.
(5) المصدر السابق ص403-404.
|