Sunday 28th February, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 12 ذو القعدة



مساحات بيضاء
ريمة الخميس
جراح الفن,,
بين الوصل والقطيعة!،

،1-4
كثير من الأطروحات النقدية النظرية، خاصة تلك التي أرست دعائمها على رؤى استمدتها من فلسفة
الجمال، تفقد مصداقيتها - رغم ما تحظى به من رسوخ - بمجرد أن تصطدم بواحد من نماذجنا
الإبداعية,,، ما أشد فداحتها من كارثة,,! أكنا نسفح أيامنا وطاقاتنا الذهنية في تأسيس
معارفنا على وهم سرعان ما تكذبه التجربة؟ أكنا مبهورين، كالفراشات، بوهج ناري في تلك
النظريات حان الوقت كي نحترق فيها؟ أم أن ما ننتجه من أنماط جمالية ما يزال أغلبه متردداً
على تخوم تقع خارج دائرة الإبداع المحظي والمشمول برضا تلك النظريات، والمانح بدوره لها
أسباب وجهاتها؟ أم أننا نحن الذين انتزعنا رؤى نقدية طالعة من سياق ثقافي نعتسف فيها إمكانية
الإذعان والتسليم لنماذج إبداعية خرجت من أحشاء سياق مخالف وتربت في تربة مغايرة ؟
لست معنية بإجابة تقطع في الموقف ارتباكه بيقين، فربما شكلت كل هذه الفرضيات إسهامات في
صياغته، وبالتالي يتقاسم مسؤوليته الناقد أو الدارس مع المبدع ومع المتلقي، وعلى كل أن يسهم
في جلائه بشيء,,!،
في مهرجان الجنادرية مؤخراً، منحتني مشاركتي البسيطة في الكتابة عن لوحات المعرض التشكيلي
فرصة نادرة للاختبار والتوثق، فقد ذهبت محملة بنظريات الإبداع وبرؤى فلسفة الجمال وباستيعاب
جيد لمدارس الفن وأساليب الفنانين وقفت أمام لوحة ارتبكت فيها خطوط التكعيبية، وعجزت العين
عن أن تتبين منظورا واحداً بسبب فوضى المساحات اللونية,, لم أفهم شيئا ولم استطع ممالاة نفسي
على استشعار إحساس بالرضا أو البهجة أو حتى بالقلق أو الغيظ على نحو ما زعم الضالعون في كشف
أسرار الفن وغاياته، فلقد بدت اللوحة تمريناً أولياً فجاً، أو محاولة خافقة على التدريب,,،
التفت إلى صاحبتها وسألتها: هذه لوحة تكعيبية؟ هزت رأسها بالإيجاب,, قلت ساعديني في أن أرى
كيف يكون تعدد المنظور للشكل الواحد الذي اعتبرته التكعيبية منجزها الأهم,,، ارتبكت قليلاً
ثم استعادت ثقتها بسرعة وقالت تعدد المنظور هذا هو تعدد الذين يرون العمل، كل يراه من
منظوره,,! صعقتني الإجابة فتذرعت بالصبر، قلت لها: من دراستنا في المرحلة المتوسطة عرفنا شكل
المربع والمستطيل مثلاً، طول وعرض فحسب، يتساويان في المربع ويختلفان في المستطيل مثل صفحة
من الورق، أو صورة فوتغرافية مثلا، وعرفنا بشكل المكعب الذي يرصد رسمه بعدا ثالثا في العمق
يجسد حجمه، حبة النرد مثلا في الشكل المربع نرى منها وجها واحدا نقرأ عليه رقما واحدا، وفي
شكلها المكعب نرى ثلاثة وجوه منها ونقرأ ثلاثة أرقام صح؟ أجابت نعم، قلت ألم يشتق اسم
التكعيبية من المكعب الهندسي، من إبراز كل السطوح الخافية خلف واجهة ما نراه؟، قالت لا
تكتبي عني هذا الكلام فأنا أرسم بكل الأساليب، واقعية وسريالية وتكعيبية وغيرها,, قلت: تعنين
أن كل تجربة لديك تفرض عليك شكلا لها وتملي عليك أسلوبا تطالب به؟, ردت: نعم؟، قلت تعرفين
ماذا يبقى من مكعبات الثلج حين تذوب؟ وانصرفت,,, سألت أخرى عن لوحة لها عجزت أن أتبين فيها
شيئا أو حساً: ما هو موضوع هذه اللوحة؟ قالت: تجريد، قلت في نفسي هذه واعية، وسألتها وأنا
استدرجها تجريد لفكرة أو معنى أم تجريد لشكل؟، وفتحت فمها عن آخره بدهشة من لم تتوقع سؤالاً
ثم راحت تتأمل لوحتها كمن تراها لأول مرة، وتجيل نظرها فوق كل مساحتها كمن يبحث عن شيء، ودون
أن تلتفت إليّ قالت: أنت قولي! وأظن أنها حتى تلك اللحظة لم تكتشف أنني تركتها وانصرفت،
وأغلب الظن أنها ربما قالت كلاما آخر أو سألت أسئلة أخرى قبل أن تستفيق ولم تجدني,,، وثالثة
قالت بكبرياء غريب وهي ترفع كتفيها بشكل لا يتناسب ونحافتها: أنا لا يعنيني ما يراه أو لا
يراه الناس,, أنا أمارس الفن من أجل الفن,,,! انتفض بدني ربما بفرحة مبهمة فها أنا أخيراً
أسمع على أرض الواقع مقولة من مملكة النظرية,, الفن للفن ، ها قد وجدت أول الخيوط,,!،
الفن للفن قالوا تلك الأعمال الفنية التي تكرس لقيمة جمالية جديدة، للشكل دون المضمون، أو
أنها تجعل من الشكل ذات الموضوع، تلك الأعمال التي تدفع بحركة الفن وتثري رؤاه وتضيف منجزاً
على دروب تساميه، أو تلك الأعمال الواعية التي يرى أصحابها أن دعوة الفن للمجتمع دعوة نبيلة
وسامية غير أن دعاتها سطحيون ومسفون، إنهم يصرون على أن يكون للفن وظيفة اجتماعية مباشرة،
كالحض أو النصح والدعوة مما يمكن أن تفي به بشكل أفضل الدراسة والمقال,, ربما كان أصحاب الفن
للفن يرون أن الفن للمجتمع ! وإنما عبر خدمة الفن ذاته,,! فالارتقاء بالقيم الجمالية
وتخليصها من كل ارتهان، والسمو بالشكل وتخليصه من النتوءات والخشونة، تجعل في النهاية دعوة
الفن للفن مردودة إلى وظيفة اجتماعية، وإنما من خلال ذلك الدرب السامي الذي لا يستطيع أن
يسلكه إلا فنان أصيل,,
هل كانت صاحبتنا تدرك هذا؟ أم كانت تواري ارتباكها فحسب؟!،
ريمة الخميس
backtop
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved