مستويات الدلالة في لؤلؤة المساء الصعب للشاعرة لطيفة قاري 1-2 القيمة المثلى التي تتضح من خلال النص الشعري هي مدى إسهامه الجمالي في التميز، ومدى تحققه من يقينه الدلالي وسط السياق الشعري بوجه عام
|
هناك حس رومانتيكي يتجوهر خلال فضاء النصوص
لطيفة قاري تخوض غمار تجربتها عبر تكوين سياقات تعبيرية تتمحور حول الذات الشاعرة
النصوص تنطلق من الممكن الجمالي المتاح في ميراث القصيدة التفعيلية أكثر من انطلاقها من آفاق
تجريبية تدل على خصوصية الأداء
الشاعرة تفك أسرار اللعبة الشعرية ولا تفاجئنا بها، وبالتالي يصبح القارئ عارفاً بما قيل
وبما سيقال
في النصوص يتم إغفال ما هو استقصائي مبدع لصالح التعبيرات المباشرة
مستويات الدلالة في لؤلؤة المساء الصعب للشاعرة لطيفة قاري
عبدالله السمطي
يقترح النص الشعري معانيه عبر تمحوره الدائب حول آفاق الكلمات، وما تقصده علاقاتها المتشابكة
على المستوى التركيبي السياقي، وعلى المستوى الايحائي,, هذه المعاني تنجم عن طريق التكوين
المتراتب - أو غير المتراتب - الذي يصنعه الشاعر في نصه موطدا في البدء سلطة المتاح اللغوي،
راسما حقوله الدلالية حقلا بعد آخر، موطئا ذلك بأساليب جمالية يسعى بها لاستثارة فعل التلقي
وتوكيد الانتباه الى ما ينطوي عليه نصه من اسس، ومن سنن تقنية معهودة او مبتكرة, والقيمة
المثلى التي تتضح من خلال النص الشعري هي مدى اسهامه الجمالي في التميز، ومدى تحققه من يقينه
الدلالي وسط السياق الشعري بوجه عام, على ان هذه القيمة لا تتحقق في التو، بل من خلال
الاصرار على نتاجات امثل، ومتابعة حركة المشهد الشعري وتطور آلياته,, أيضا للتجربة,, للخبرة
عامل اساس وجوهري في صياغة الوهج النصي الشعري، وتكوين محتواه الدال,
وفي ديوان الشاعرة لطيفة قاري لؤلؤة المساء الصعب (1) ,, تأخذنا النصوص إلى مجادلة للكشف
عن جانب مهم من جوانب العملية الشعرية لدى الشاعرة وهو الجانب الدلالي الذي تحتفي به الشاعرة
احتفاء أول,, حيث تخوض غمار تجربتها عبر تكوين سياقات تعبيرية تتمحور بالاساس حول الذات
الشاعرة، وما يعن لها من رؤى تفسح المجال لبسط افق التأويل واستثارة المتلقي حيال ما هو
دلالي أكثر مما هو تقني تجريبي,, إذ ان النصوص تنطلق من الممكن الجمالي المتاح في ميراث
القصيدة التفعيلية اكثر من انطلاقها من آفاق تجريبية تدل على خصوصية الاداء، وخصوصية
التقنية, ولسوف نمضي مع صفحات الديوان في شكل افقي متأملين في النصوص المفصلية التي تشكل
جوهر الديوان وصلبه الدلالي، لبيان كيف تقدم الذات الشاعرة تقاطيعها الدلالية نصا بعد آخر،
منتبهين في البداية الى ان هذه الطريقة من القراءة قد تعرض عن بعض النصوص وتنعم النظر في
بعضها الآخر، لكن هذا الاعراض وذاك الانعام هو نوع من التلقي الواعي الذي يدرك - او يحاول
ذلك - ما للقيمة الجمالية/ الدلالية من دور في إبراز النصوص، وما هذا الحضور والغياب إلا نوع
من الوميض التصويري الذي لن تشطفه القراءة النقدية ولن تحجر على اشعاعاته، خاصة وان قيم
الدلالة تشع بالاساس من هذه النصوص المفصلية الفارقة في الديوان، لا من النصوص المعهودة التي
لا تخلف اثرا قرائياً لحظة التلقي او ما بعد هذه اللحظة,
،* نطاق الدال:
يتمثل نطاق عمل الدال في توسيع الافق الدلالي للمفردة من جهة، وتوسيع رقعة الطبقات المعنوية
للمفردات (للجمل) ككل,, بمعنى ان هذا النطاق يشمل عدة عمليات من الانزياح والانحراف والتخالف
بالنسبة لوضعية المفردة داخل السياق النصي خاصة حين يكون هذا السياق شعريا,, مما يعود على
النص بدلالات كثيرة، تكسر هذا التراتب المعنوي المعهود للمفردة، وتصوغها في فضاءات جديدة،
وعلاقات أجد,
إن الكلمات - فيما يقول بيار جيرو - هي ابداعات انسانية ولها في الآن ذاته حياتها الخاصة،
كما لباقي الكائنات، إننا نخلق الكلمات لنهب الاشياء اسماء، أكانت الاشياء لم توهبها بعد، أو
أن ما وهبته لا يؤمن لها وظفيتها بشكل فعال، تلك الوظيفة الثنائية: المعرفة او الدلالية،
التعبيرية او الاسلوبية (2) ,
ولعل قدرة هذا النطاق الذي يصنعه الدال بعمله - خاصة في سياق شعري - تتمثل في طاقة اخرى سوى
طاقة صنع الكلمات، وهي قدرته على ان يصبح أثراً بالمفهوم الديريدي - الذي يطرحه جاك دريدا -
بحيث ان الاثر بمثابة بنية تحيل على الآخر، عموما، (المتنافر، الغير، المختلف) وهو ليس حضورا
قائما يمكن للحس ان يلتقطه، وهو لا يؤدي إلى الحضور بقدر ما يؤدي إلى الانزياح (وإلى العدول) ،
الذي يتضمنه المختلف,, والاثر هو تسمية جديدة لمفهوم الكتابة الكلاسيكي وزعزعة لمضامينه (3) ,
من هذأ الافق الذي يرى للدال نطاقا عبر توسيع هذا النطاق، وصنع اثر ما له، نمضي مع ابرز
الدوال اتلتي يطرحها ديوان: لؤلؤة المساء الصعب، ونبدأ بكلمة: المساء وهي كلمة جوهرية في
أفق الديوان,, إن العنوان يشير إليها ويصفها مقرونة بالصعوبة، كأن المساء لا يأتي إلا بعد كد
ومشقة، إنه مساء خاص تستحضر فيه لحظات القصيدة/ اللؤلؤة التي تخرج للقارئ بعد غوص في اعماق
بحور الدلالة,, هكذا يومئ - بدئيا - العنوان,, أما داخل النصوص، فإن كلمة المساء تتوالى
وتتكرر كالتالي:
أتى قلبه ,,, للمساءات/ ارتدت ثوبها فتعرى مساء/ حين يأتي المساء احط يديك على كتفي لتسترني/
هيئ لقلبي ثريا المساء/ ترتدينا المساءات/ يا للمساءات حين تحن على الجائعين/ اصغى لبوح
المساء/ نكهتنا في المساء الحزين/ لؤلؤة المساء الصعب والصحو المريب/ إلى خيمة في المساء
نراها ,
هذه بعض التعبيرات المسائية، التي تدخل فيها مفردة المساء بوصفها طرفا جوهريا في إنشائية
العبارة الشعرية وإنتاجها,, والمساء كما نرى في هذه التعبيرات يومئ إلى دلالالته الزمنية
مباشرة، إلى توقيته الليلي، من دون استثمار بعد رمزي ما، او من دون استخدام المفردة للاحالة
المجازية إلى هم موضوعي، او إلى دلالة ما، فالمساء ها هنا دالة زمنية بالاساس,, من هنا فإن
عمل الدال يصبح مرهونا فحسب بمعناه الاول ولا يخرج الى معان أخرى ثواني أو ثوالث، وبذا فإن
علاقته مع الاطراف الدلالية الاخرى تصبح علاقة محايدة مستقلة، كل طرف، كل دال له استقلاله
المعنوي عن الطرف/ الدال الآخر، وبذا ينقطع استيلاد المعاني الجديدة، ويبطل مفعولها الدلالي,
بيد أن هناك تعبيرات آخر مثل: تعرى مساء، ترتدينا المساءات، يا للمساءات حين تحن,, ينتقل
فيها الدال من كينونته الزمنية الى كينونات مجازية يتم فيها اسقاط دلالات جديدة للمفردة،
فتؤثر هذه الدلالات (العرى/ الارتداء/ الحنين) على بقية اطراف العبارة فتتولد الدلالة
الكلية، ويصبح النص اكثر ثراء من الوجهة التعبيرية,, وهذه امور بديهية في الفعل الشعري، من
المؤكد ان الشاعرة تنتبه لها حالة كتابتها نصوصها، كما انها تنتبه ايضا إلى السياقات النصية
الاخرى المعاصرةو لترى ان توسيع نطاقات الدال لا يتم بمجرد هذه الاحالات المجازية فحسب، بل
بتعدد هذه الاحالات والانحرافات من جهة، وتفادي تكرارها من نص لآخر من جهة ثانية,
ثمة طريقة اخرى تحاصر الدال، ولا تزكى رحابته، وهي التمهيد التدريجي لحضوره في المشهد
العباري، مما يعطي افقا للتوقع، لا كسرا لهذا الافق، كأن الشاعرة حين تؤدي شهدها العباري تفك
اسرار اللعبة الشعرية، ولا تفاجئنا بهذه اللعبة، وبالتالي يصبح القارئ عارفا بما قيل وبما
سيقال، وهذا التمهيد التدريجي لحضور الدال ينتشر بكثرة في نصوص لؤلؤة المساء الصعب بما يؤكد
على عدم فاعلية بعض الدوال البارزة التي تلح اليها الشاعرة، تقول في احد مشاهدها العبارية:
أيعنيك موتي
إذا فالتحف بالنجوم البعيدة
روع ظلام النوافذ
هيئ لقلبي ثريا المساء
وهيج سكوني (الديوان ص,ص12:13),،
لقد حاصرت الشاعرة - وحصرت - دالة: المساء بهذا التمهيد (النجوم البعيدة/ ظلام النوافذ) ،
ويصبح المتوقع ها هنا امرين - أما ذكر (الليل) او احد دلالالته، او ذكر (النهار) وذكر
،(المساء) هو الدال المتوقع الذي كتبته الشاعرة، وبالتالي يصبح ما هو متوقع غير منتج، وغير
فعال,, لان الشاعرة لم تقم بكسر التوقع، لم تكسر التصاحب من الدوال وتضم المخالف، ولم توسع
بالتالي من نطاق عمل دوالها الشعرية، كما وسعت في هذا المشهد:
يا للمساءات حين تحن على الجائعين فتطعمهم موعداً
قد يجئ
ويا للمساءات حين تحن على البائسين
فتمنحهم صدرها ,,حوض ماء
وفيئا
وسدداً قليلا (الديوان ص18),،
أخذت دالة المساء هاهنا بعداً مجازيا آخر، فارقت عبره مغزاها الزمني، وأصبحت تحن على
البائسين والجائعين، وتمنح، وتعطي,, هنا اتسع نطاق الدال، وأصبح ذا طاقة تعبيرية تشع في
ذاتها من جهة، كما تشع على بقية اطراف المشهد العباري من جهة اخرى,
الامر نفسه ينطبق على دوال كثر تتواتر في سياق النصوص، خاصة فيما يتعلق منها بمجال الكتابة،
والكلام الشعري - إن دالة الكلام التي تأتي معبرة عن مكابدة القصيدة، وعن لعبة الانشغال
بالحروف والكلمات والجمل، هي دالة اثيرة في فضاء الديوان، قد تأتي لتعبر - أيضا - عن مغزاها
الأوّلي، بقصد الكلام الشعري بذاته، وقد تجيء محملة بمكنونات رمزية وقولية تنقل سحر الاداء,
وتتبدى الاشارة الاولى لدالة الكلام من النص الاول,, امرأة من كلام/ لو لمست الكلام فض سر
الغرام وعلى رغم من ان الشاعرة تفض هاهنا اسرار كتابتها بالتعبير المباشر، فإننا نلمس
الكلام في هذه المرأة/ القصيدة، التي هي امرأة من كلام,, ينزف من الاضلع ليكتب سفر الكلام،
حيث لا تاريخ إلا ما يسطره الرصاص على جدار الحرف، حيث خدر العبارة ووهجها:
يروعني خدرٌ في العبارة
كل الكلام الذي في يدي لم أهادن غوايانه
لم أذق ملح اهدابه ,,لم أذقه
وكل الغمام الذي في يدي لم اسقه
وكل الذي انشق عني غريب
فضاء غريب/ ومرج غريب/ ومعنى غريب ص13 ,
مقتطع هذا المشهد من نص: أيهما أنا؟ النص يعبر عن حالة الابداع الشعري، ولحظة انشطار الذات
ما بين الواقع والحلم، وكتابة القصيدة التي تشبه الخدر والغواية، القصيدة التي تفضح الرغبة
في الجنون,, والكلام/ العبارة هو الوهج الاول للدلالة النصية، من هنا يجيء تكرار دالة
الكلام المرتبط بالحروف بالعبارة كتيمة جوهرية يتكئ عليها النص لتبريز دلالته ومقصده
الكلي,, ولعل هذا التكرار قد صنع مناخا واسعا للتعبير عما يرتبط بالكلام الشعري المؤلف من
انشاء، وتعبير، وغواية، وتذوق، كأنه غمام يساق، ليصبح افق العمل الشعري فضاء ومرحبا، ويشتكل
في معنى غريب,
هكذا ، حين يتم التركيز على الدال، وعلى اضاءته بوضعه في البؤرة التبعيرية، وإحالته الى
مناطق دلالية اخرى تفارق معناه الاول، يصبح العمل الشعري ذا قيمة جمالية مميزة كما يصبح لعمل
الدال اثره البارز، واختلافه عن السياقات الشعرية الاخرى، بحيث ينجم عن هذا الاثر صيغ
مختلفة، واسلوب شعري مختلف,
ومن الدوال الاثيرة المتكررة لدى الشاعرة، دوال: الرمل (كإشارة إلى الصحراء)، والبحر،
والليل، والنهار، والنجمة المسائية والحروف (إيماء للعمل الكتابي)، وأصوات الطبيعة والفصول،
والغمام، والظلام، والحلم، والجنون,, ولا يكاد يخلو نص من الاشارة إلى هذه الدوال التي تنم
بالاساس عن حس رومانتيكي يتجوهر داخل فضاء النصوص,, وتأتي جميعا في شكل تأملي مباشر، لا يسعى
إلى فلسفة العبارات، او النزوع بها إلى افق تجريبي، بل ان الشاعرة تحتفي فحسب بالمعاني
الاول، وبصيغ التداعي الناجمة عن تجاور الدلالات وتماثلها، لا تباعدها وتخالفها وتمايزها,,
مما يعطي للقارئ وضوحا شديدا للعبارة الشعرية وللنص الشعري ككل، ويمكن ان نسم الحضور الفردي
للدوال - منقطعة بالطبع عن علائقها وتشابكاتها - بعدة سمات:
أولها : إقامة مناطق دلالية محايدة داخل النطاق النصي، لا تلعب فيها التعالقات الدلالية دورا
كبيرا في تكوين وحدات شعرية متضامنة، متعضية، بل تكتفي هذه التعالقات بايراد المعنى الواحد،
والمقصد النصي الاحادي,
ثانيها : تتحرك الدوال حركة افقية فحسب، ولا تنشغل بما هو راسي، تتحرك عرضيا وحسبها تكوين
العبارة الشعرية السياقية لا الاستبدالية العميقة,, وبالتالي يتم اغفال ما هو استقصائي مبدع
لصالح التعبيرات المباشرة,
|
|
|