د, إبراهيم ناجي ,,وتراسل الرسم والشعر د, نذير العظمة
|
إن القصائد التي كتبت في نقش أو رسم أو نحت نادراً ماتصل الى المطابقة بين الصورة المرئية في الفن
والصورة المنطوقة شعراً، وتختلف حساسية الشعراء وقدراتهم في استلهام الفنون المذكورة,
ولايمكن ان نربط هذه الحساسية وهذه القدرة بنشوء المذاهب الفنية في الشعر العربي الحديث تأثراً
بمدارس الغرب,
والصلة بين الشعر وتلك الفنون في الثقافة الاوروبية متينة رغم ان قويت عند الرمزين والسرياليين, ولاشك
ان تذوق الرسم والنقش والنحت يتطلب حساسية شعرية مرهفة لكن القدرة على تعبير هذا التذوق من عالم
الصورة والحجر واللون الى عالم الكلمة الموقعة شعراً هي أمر آخر,
ويتساءل المرء هل لشعرائنا المبدعين في نهضتنا الحديثة حين يرون ويقرؤن قصائد شارلز بودلير أوغيره
عن لوحة مرئية اونصب منحوت كعمر ابي ريشة او ابراهيم ناجي هل يستدعي ذلك الى مخيلتهم المحاولات
المشابهة في شعرنا القديم كإيوان كسرى للبحتري او وصف الكأس المشهور لأبي نواس تدار علينا
الراح,,, الخ اووصف الأسود في قصر بيجاية لابن حمد يس الصَّقلي ام انهم يطورون حساسية شعرية حديثة
نحو الفنون بمعزل عن هذه الجذور الابداعية الصريحة في الميدان نفسه؟!،
وما اعتقد ان شعراءنا المحدثين يضربون بينهم وبين جذورهم هذه ستارا يحجبهم عن هذه الأصول، ويضربون
انفسهم بانفسهم,
الى النماذج الأوروبية,
ان هذه النماذج بحد ذاتها التي تحرض شعراءنا على الابداع المشابه من خلال المحاكاة او المباراة هي
نفسها تذكرهم بالنماذج العربية الموروثة في هذا الخصوص,
ويصبح ابداعهم هكذا امام تحديين تحدي النماذج الحديثة التي وفدت علينا من اوروبا لاسيما مع الشعر
الفرنسي والانجليزي وتحدي النماذج العربية التي اشرنا اليها فوق,
وتصبح مسؤوليتهم اكبر، وطموحهم الى انجاز الصورة عن الصورة بين اللون والنطق اكثر توتراً إلا اذا
ارتضوا التقليد لا المباراة والمنافسة الى حد التجاوز,
ان قصيدة معبد كاجوراو لعمر ابي ريشة تستطيع ان تقف جنبا الى جنب شامخة بين النماذج العربية
والنماذج الأوروبية, وهي من اجمل قصائد التراسل بين النحت والشعر,
إلا ان اغلب ماكتبه ابراهيم ناجي في هذا الخصوص ينقل لعبة التراسل بين الرسم والشعر من حقل افراز
الصورة الى حقل الاحساس المصاحب والفكرة الملهمة، وعندها يمكن القول: ان قصائد ناجي السبع في هذا
المجال هي حوار بين العين والسمع بلغة ترشح طراوة ومخيلة مبدعة مرافقة على اللوحة الاصلية التي تكمن
كديكور لنص القصيدة، وفيما تولد المسرحية ديكورها فان الرسم يولد Back Drop ) أو Motifفي الخلف ل(،
القصيدة عنده ورغم ان ابراهيم ناجي يقف وقفة الاستلهام في حضرة اللوحة إلا ان مرجعيته الاساسية هي
القصيدة، وهو لايحاول ان يزوج الفنين، فن الرسم وفن الشعر معا بل يسعى الى ان يستلهم الشاعر من
الرسام وان يرفده بالصورة التي تثير الحس وتحرك الفكر,
واذا كان هناك شعراء قد سعوا الى خلق القصيدة اللوحة فان ابراهيم ناجي ليس من هؤلاء , فالكلمة لا
اللون والجملة الشعرية لا الظل والضوء او امتزاج الالوان هي مرجعيته الأولى والأخيرة,
وإذا كان بعض شعراء الوصف الذين عنوا بالفنون الجميلة في قصائدهم أو بعضها يتميزون بعين فيها من صفات
الكاميرا قابلية انطباع الصورة في مخيلتهم وافرازها كلمات لا الوان فان كاميرا ناجي لم تكن من هذا
القبيل,
بل ان مخيلته لجأت الى الذاكرة وسيالاتها عوضا عن انبهار العين في حمى اللوحة, وابراهيم ناجي الشاعر
الوجداني ظل وجدانيا في تعامله مع اللوحات التي لم تقف عند حد الرؤية البصرية بل تجاوزت ذلك الى
رؤية وجدان وبصيرة، وافراز مخيلة تميل الى ابتكار لوحة جوانية من اللوحة الطاهرة,
وفي عدد آخر من مجلة العمارة ينشر ابراهيم ناجي قصيدة بعنوان المرأة كتصوير شعري لرسم بالريشة
لمجهول، يمثل امرأة في روضة تقطف تفاحة,, والقصية على البحر المتقارب تتألف من خمس رباعيات كل
رباعية على قافية مختلفة, مطلعها كما يلي:
أحاول افهمها مرة
فأعيابها وبتفكيرها
وما سحرها؟ ألتكوينها
وماحسنها؟ ألتصويرها
تقول الطبيعة بنتي! وما
أحس لها بعض تأثيرها
وفي العدد نفسه من مجلة العمارة وبعد قصيدة المرأة مباشرة جاءت خمس رباعيات اخرى على البحر نفسه
والنسق إياه كقصيدة أخرى بعنوان المثال والمرأة كتصوير شعري لرسم بالريشة لمجهول يمثل مثلا
يهتاجه جمال المثال، أي المرأة التي ينحت تمثالا لها، فيلقي بالتمثال يحطمه,ويزعم محررو ديوان
ابراهيم ناجي وهم احمد رامي واحمد عبد المقصود وهيكل وصالح جودت ومحمد ناجي ان القصيدة الثانية
استطراد للقصيدة الأولى فدمجاهما معا في قصيدة واحدة في الديوان بعنوان المرأة كما في القصيدة
الأولى وكان الأجدر ان يكون عنوان القصيدة الثانية هو العنوان اي المثال والمرأة لدلالته على
القصيدتين ككل موحد في قصيدة واحدة منسجمة, وواضح من موضوع القصيدتين ان ابراهيم ناجي يتكلم في
قصيدتين مختلفتين عن لوحتين اثنيتن لا لوحة واحدة, وهو الأمر الذي دفعه الى ان ينظم كلا منهما
وينشرهما في مجلة العمارة بعنوانين مستقلين, ورغم ان الدمج في قصيجة واحدة يبدو مقبولا ومعقولا الا ان
الامانة تقتضي ان يظلا قصيدتين مستقلتين في نسق واحد مشترك,
وفي كلا القصيدتين يحاول ابراهيم ناجي ان يحول المرئي بالرسم في اللوحة الى سمعي ينشد شعراً,
ولكن هل استطاع الناجي ان يحول الصورة بالالوان الى صورة حسية بالكلمات؟! ام انزاح الى شؤون اخرى
بعد ان قام بوصف ما لمحت عيناه في اللوحة الاصل,
وبكلمة اخرى هل ولد الرسم او التصوير في اللوحة تصويرا ً في الشعر ام وصفا للصورة، وهل فرضت ايحاءات
اللوحة والهاماتها الخفية وجودها وحضورها في القصيدة كما في قصيدة القرية التي حللنا سابقا بينما ظل
هذا الحضور خفيا في اللوحة ومحسوساً غير منطوق,
وواضح ان اللوحتين عن شيمتين منفصلتين وان كانت المرأة بينهما قاسمهما المشترك,
الأولى والتي بعنوان المرأة وهي تقطف تفاحة في الروض تومى الى حواء والفردوس، لكن ابراهيم ناجي لم
يجسم مارأته عيناه في اللوحة في قصيدته بل تكلم عن اسطورة المرأة كغريزة وطبيعة وجمال وحنان وفضلها
على الطبيعة ورغم انه خصص رباعية كاملة لوصف الروضة التي تحيط بحواء إلا انه لم ينبس ببنت شفة عن
التفاحة وهي الرمز المركزي في اللوحة الاصل الى جانب حواء,
كما انه يختتم قصيدته المرأة بالخروج من حواء والتفاحة الى عشتروت وأدونيس كما في الأسطورة
الفينيقية ووريثتها الاغريقية وولادة أفروديث من الماء والزبد على شاطىء البحر حيث انشق عنها الصدف,
يقول ناجي
ولاحت بمرأى لعيني فتى طوى البحر ليس له من قرار تفتح في جسمها موجتان وينشق في الفجر عنها المحار رآها فجنَّ غراما بها وغنى بها الليل بعد النهار وقالوا تعشق جنيةً فتى شاعر تائه في البحار |
المضمر في هذه الرباعية والمومأ اليه هي عشتروت أفروديت التي ينشق عنها الصدف على الشاطىء وتخرج من
الزبد والماء تأسر وتسبي كما تقول الأسطورة عن ولادتها,
لكن ناجي يهمل جدل الأسطورة الاصليةويكتفي بوصف خروج افردويت من الماء اما ثنائيات الجفاف والخصب
الموت والولادة انوثة الطبيعة وذكورة الانسان كلها بقيت غائبة,
وظلت صلة الأنثى بالذكر هي التي تحكم البنية العميقة للقصيدة في جانبها الخفي والمتنكر تساميا
بالغرام والحب والحنان في الصورة الظاهرة,
ويبدو ان ابراهيم ناجي لاينبهر بالصورة الماثلة امام عينية بقدر ماتستحضر اللوحة الى ذاكرته
الاسئلة الاساسية حول موضوعها اي المرأة والطبيعة, فهو يتحيز صراحة الى الإنسان /المرأة ويجد في
طبيعتها مالايجده في الطبيعة من فرح وحنان وسعادة,
فالمشاعر حيال اللوحة لا اللوحة ذاتها هي مركز القصيدة,
ومن ثم المخزون في الذاكرة حولها من افكار واسطورة,
وبالتالي تصبح القصيدة غير اللوحة واللوحة غير القصيدة والصلة بينهما هي شرارة الوحي او الإلهام التي
تولدها اللوحة لإبداع القصيدة,
وفي تجارب اخرى من التراسل والقصائد التي تعنى به رأينا احتفال الشعراء بالعناصر البصرية في اللوحات
ومحاولة انتاجها صورا مرئية بالكلمات لكن ناجي يلح على المشاعر وتداعيات الذاكرة في قصائده التي
الهمتها لوحات لرسامين معورفين اومجهولين وقداهتم بالرسم اكثر من اي فن آخر كالنقش اوالنحت وابدع
عدداً وافرا من القصائد منطلقا من اللوحة المرئية الى سيالات الشعود وروافد الذاكرة,
|
|
|