Thursday 18th February, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 2 ذو القعدة


الفن يصطفي خطابه
ريمة الخميس

في بدايات حياته تعلم الانسان كيف يخاطب الآخر كتابة غير أبجدية من الرسوم، ومن ثم كانت اللغة في
، وطبيعي ان تلك اللغة لم تقف عند حدود الاخبار والاعلام ولكنها لم تخل من Graphicبداياتها تصويرية
تعبير - مهما صؤل قدره - عن بعض من المشاعر والانفعالات,, كان يستطيع ان يكتب كلمة الرجل بأن يصوره،
فكيف استطاع ان يقول ضربه بقوة او حارب بحماس، اعني كيف استطاع ان يعبر عن الصفات والانفعالات وظرف
الزمان والمكان وغير ذلك؟,, لعله كان يبدل قليلا في هيئة الرجل ليدلل على فعله، أليس هذا هو ما يلجأ
إليه فنان اليوم حين يصور مشهداً فيحور قليلا في الاشكال على نحو او آخر لتدل على المشاعر والافكار
المجردة والمعاني الهاربة؟ لكن الفن في مسيرته الطويلة لا ترضيه او تشبع طموحاته ان يقف عند تلك الحدود
المباشرة النقلية التي استعانت بها لغة لم تكن قد تشكلت بعد في حروف وأبجديات دانت لها كل المعاني
والافكار بل وصور البيان وولوج عالم المجاز,, لا يرضي طموحه ان يقف في اكتماله عند تلك الحدود القاصرة
لبداية اللغة وبالتالي فلم تعد الاشكال وحدها تعنيه قدر ما اصبح هما أساسيا له ان يبتكر لغته وأبجديته،
فمن اي الحروف تشكلت تلك الابجدية للفن؟
أهو اللون فكثيرون يتحدثون عن برودة الازرق ودفء الاحمر ومرض الاصفر ونماء الاخضر,, ولكن هل من المعقول
ان تتشكل ابجدية من ثلاثة ألوان أساسية، ثلاثة حروف في تلك الابجدية، ومن عدة ألوان تتركب من امتزاج
حرفين او اكثر من تلك الحروف الثلاثة، كالاخضر والبرتقالي وغيرهما أهو الخط، فكثيرون تحدثوا عن الخط
الهابط او الصاعد وعن الخط الذي يحدد مساحة تضيق او تتسع بينه وبين خط آخر وعن التواءات الخط
وانحناءاته، وعن مرونته ورشاقته، وعن صرامته وهندسيته، وعن امتداده أو انقطاعه إلى غير ذلك، فهل من
المعقول ان تتشكل ابجدية من خط ليست هناك قياسات ثابتة لطوله او سمكه هو في نهاية الامر خط يتجه إلى
واحدة من الجهات الاربعة او إلى انحرافات صغيرة واقعة بين جهة وأخرى من الجهات الاصلية؟
أهي تلك العلاقة بين الخط واللون، يصنعان معا المساحات والاشكال في تركيبات كتركيبات عمليات الضرب
البسيطة في الحساب؟
نسمع عن معارك بين فنان قدير مثل إنجر وبين عبقري مخيف مثل ديلاكروا حول الخط واللون,, إنجر يقول:
إن الاساس في التشكيل هو الخط وما اللون إلا حلية إضافية لتزيين المساحات بين الخطوط, وديلاكروا يقول
بل المساحات اللونية التي لا تقطع حوافها خطوط تكشف عن الصنعة الرديئة,, أحدهما اطاح باللون والآخر
اطاح بالخط، فمن اي شيء تتألف ابجدية التشكيل؟
يعتمد الفنان في خطابه عبر اللوحة على خبرة مشتركة بينه وبين من يتلقاه، تلك الخبرة قد يلخصها ايعاز
لوني او تحريض خطي او علاقة خافية بين اللوني والخطي، خبرة هي بالاصل اساس في جوهر الوجود الانساني،
ليس بذلك المعنى البسيط في ان الانسان يعطي للحزن لونا وللفرح درجة وللرغبة والارادة مسارا لخط وإنما
في علاقة (الصدمة) او الفجاءة البصرية وتلك المقارنة الخافية التي تتم دون ادراك او تدبر في لحظة
عابرة بين ما تقع عليه العين في الفن وبين حيرتها بلحظة مماثلة حين وقعت عليه في الحياة,,!!,, من هنا
تحديدا ابتكر الفن لنفسه ابجديته الخطابية اي ان تلك الابجدية تتشكل من حركة للخيال حين يبسط اجنحته،
ومن حركة للمشاعر حين تسري في الخلايا، ومن نشاط يدب في خلايا الدماغ ليعقد المقارنات او يستجير بمعرفة
سابقة او بثقافة تسعفه، وبانتعاشة تبدد خمول الذاكرة فتحدد للدماغ خارطة البحث والتفتيش في ظلمة
الاغوار السحيقة لازمنة غابرة او للتو مضت تدفع به كبحار يغوص ويخرج بالاصداف والمحار، ومن هنا اختلف
المعنى، ليس من فنان إلى فنان، وإنما من قارئ لنص تشكيلي إلى قارئ آخر,,!،
أهي إذن لغة يفتح لها الفنان أبوابا اختيارية تفضي إلى اسرارها ويترك للمتلقي ان يثبت مهارته وامتيازه
في القدرة على البحث والقنص؟ اعني اهي لغة يفجرها في المتلقي ذلك الفنان ليدفع به إلى صياغة حرفها
ومفرداتها ومعانيها بجهده الخاص، دون ان يملي عليه حروفا او كلمات او معنى؟
لابد ان شاعرا فذا مثل ما لارميه قد كان مدركا لهذه الحقيقة وهو يقول ابحث عن المعنى خارج الاطار فهو
هناك وليس فيما تراه عيناك من اشكال او ألوان : أين تقع تلك الهناك ؟ أهي في رأس الفنان في افكاره
وقناعاته ورؤاه وميوله ام في ادمغتنا وافكارنا ورؤانا وميولنا؟ أم - حقيقة - في تلك الخيوط التي تصل
قناعاته بقناعاتنا موافقة أو صداما، وتصل افكارنا بأفكاره انحيازاً او مواجهة وعداء أو تصل المشاعر
بالمشاعر والتجارب بالتجارب؟
أليس هذا يعني ان لكل فرد من بين ألف فرد يوجهون عيونهم إلى لوحة واحدة لغة مستقلة تختلف عمن يقف الى
جواره؟ أهي إذن ألف لغة بعدد كل الذين يتأملون لوحة أو اخرى؟ أتلك هي قيمة الفن ؟
backtop
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
شعر
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved