الثقافة رهان حضاري أ,د, كمال الدين عيد ،(1) المدخل
|
بادىء ذي بدء اعترف أن هذا العنوان الجذاب للمقال ليس لي, فمنذ عقد من الزمان كان عنوان كتاب ثقافي
اصدره مؤلفه الأستاذ الشاذلي القليبي التونسي الجنسية والذي عمل وزيرا للثقافة في تونس ثم أمينا عاما
للجامعة العربية بعد ذلك, وهو كتاب مفيد يبحث في بعض مشكلات الثقافة, لكنه لا ينزل ليغترف من الأعماق,
وقد ألجأني هذا العنوان الطريف الى البحث في عالم الثقافة الواسع والخطير، خاصة في أيامنا هذه داخل
الوطن العربي, فعكفت منذ ستة شهور كاملة على البحث في ماهية الثقافة,, كنهها وهيئتها، أهدافها
وروافدها، نظرات الفلاسفة الذين تعرضوا في نظريات فلسفاتهم اليها,, وخاصة الألمان والفرنسيين منهم,
محاولا طرح مفهوم الثقافة على الشعوب التي تفرز آليتها فيهم، ومقدرا تأثيرها على الحضارة تطورا وتقدما,
بادئاً من تاريخ انبثاق المصطلح ذاته، مُنقبا عن وضعية الثقافة كفلسفة حياة للبشر والمواطنين، مركزا في
قراءاتي على الدور الحيوي الذي يربط الناس ببعض الثقافات، مثل ثقافة الأدب والثقافة الموجهة للشباب,
وكان من الطبيعي ان يقودني هذا الاغراق في بحور الثقافة التي يزيد عدد نوعياتها عن ألف ثقافة في العالم
المعاصر الى البحث عن علاقات فكرية وحسية وطبيعية للثقافة مع علوم كثيرة أخرى كعلم الانسان الثقافي
وهو Morphology ثم علم التشكل الثقافي المورفولوجيا Cultural Anthropology الأنثروبولوجيا الثقافية
وعلوم أخرى Ethnology العلم الذي يبحث في بنية وشكل الاحياء, وكذلك علم الأعراق البشرية الاثنولوجي
كالفلسفة والجمال, وكلها قد دخلت على مر تاريخ الثقافة الى الروح الثقافية لشعب ما بطريقة أو بأخرى،
حتى كوّنت هذه العلوم بانسيابها داخل الجسد الثقافي وفكره ثقافات عديدة متوافقة أحيانا ومتباينة احيانا
أخرى, وهو الأمر الذي أدى في النهاية الى اختلافات الثقافات هنا وهناك,
لكنه من المؤكد ان حركة التراكم الثقافي في بلد ما انما تعكس رصيدا لهذه الثقافة,, رصيدا عادة ما يكون
نشطا ديناميكيا يعمل ليل نهار على افراز وتشكيل قنوات أدبيةوشعرية وقصصية وروائية وفنية داخل المجتمع,
وهو الحصيلة الذهبية أو الاشراف على نهاية المطاف واكتمال المجتمع ثقافيا، وما اطلق عليه التغير
الذي تتصف به دولة ما بكل ما ينثره Culure pattern الثقافي , وهو تغير يحمل مع جديده المثال أو النموذج
من تيار فكري ونماذج سلوكية وأنماط معاملات ومستوى تعليمي وثبات حضارات قديمة أو اندحارها,ومما لاشك
فيه ان مراحل التعليم العام بمختلف مستوياتها الثلاثة تشكل الارضية الصلبة والمعاونة على جريان تيار
الثقافة الى المستوى الأرقى,
لكن هذه المراحل على مر التاريخ لم تكن دافعاً للملايين ليصبحوا من أسرة أو جماعة المثقفين, وهو ما
نستدل منه أن التعليم ليس هو الثقافة تحديدا,
والسبب في ذلك بسيط وواضح, فالثقافة حتى وان استندت على المعارف الحياتية في المرافق التعليمية، فانها
في علاقتها الطبيعية والمعملية الحياتية تتصل كذلك بالآداب والفنون وعلوم حديثة مثل السيمياء
signification والعمليات الدلالية communication ,, وهو علم يهتم -عصريا- بعمليات الاتصال semiotics
بحثا عن المعاني ودلالاتها, وقد تبين من البحوث والدراسات الاثنولوجية المقارنة التي أجرتها طرق البحث
، primitiveالأمريكي للثقافات القديمة والأثرية ان عدة مئات من الثقافات كانت أصلية وبدائية وساذجة
لكنها كانت تُفصح عن نظام المجتمع، والقرابة العشيرية، وطرق ونماذج الانتاج, وكل هذه النتائج البحثية -
من زاوية نظرية الثقافة- مفيدة وهامة فضلا عن اعطائها مؤشرات علمية لا يستهان بها,
فيما يزيد عن ألف من ثقافات العالم بُنى وخصائص A.g.p.Murdock لقد بحث الرائد البحثي أ,ج,ب موردوك
وافرازات أعطت نتائجها علامات جادة على تاريخ مسيرة الثقافة قديما وحديثا, خاصة وقد تميزت بحوثه بالنظر
بعين الاعتبار الى سسيولوجيا اجتماعيات الثقافة وارهاصات الثقافات العصرية ومتضاداتها على نسق بحوث
الصراع والسلام(1),،
ولماكانت الثقافة رهاناً حضارياً، فإننا نرى ان هذا الرهان مربوط ضمنياً بعدة انجازات هامة وثرية
منثورة على طريق طويل وشاق لتحقيق انتصار الرهان, وتتمثل هذه الانجازات التي تقطعها أي دولة في سبيل
دخولها الى الباب الثقافي الواسع- جنبا الى جنب من سبقها من دول متمدينة- في المساعي التالية:
،1- تجهيز عالم التراكم الثقافي، بكل ما يحويه من آداب وعلوم وفنون، وبكل ما صدر ويصدر من مؤلفات علمية
في الفروع الثلاثة, وعرضها في مكتبات الجامعات، والمكتبات العامة، ومخازن بيع الكتب للجماهير، تغذية
لجماهيرها من طبقة المتعلمين في المكتبات الأولى والثانية، والتصاقا ببقية الطبقات في مكتبات الشوارع
والميادين,
،2- اقامة المعارض الفنية التي تشمل مختلف الفنون، مسرحية وسينمائية وتشكيلية, والأخيرة هي اكثر المعارض
انتشارا كما نرى في عالم اليوم لتعدد مهنها الفنية, فالفن التشكيلي ليس وقفا على فن التصوير الزيتي
, فهناك فنون التصميمات الصناعية في المعادن والحديد والخزف والزجاج, وهناك فنون التصميم painting
الداخلي في الزخرفة التطبيقية والأثاث وتصميم وتشكيل الزخارف المعمارية والمجسمات الطبيعية والتجريدية,
وهناك فنون النسيج تشمل طباعة المنسوجات والصباغة والتجهيز، وتصميم وتكّ المنسوجات والغزل، وتصميم وتكّ
الجوبلان والسجاد والكليم، ثم فنون التصوير الضوئي والطباعة، وتشمل التصوير الفوتوغرافي والاذاعة
المرئية التلفزيون ، والتصوير الميكانيكي، والاعلان، والسيراجرافيك، والحفر على الخشب وعلى النحاس, اضف
الى ما تقدم فنون الآثار والتصميم المستندة على علم تنظيم الآثار، والنقوش والمسكوكات، وعلى أسس ومصادر
الفن والعمارة والآثار العربية الاسلامية في الجزيرة العربية، وفنون ترميم العمائر وعلم ترميم
النحوتات، والفسيفساء، قدمت أمثلة عابرة دون تفصيل لبقية مهارات وفروع الفن التشكيلي للفت النظر لاغير,
،3- معارض الكتاب, وهي جزء هام في شبكة الاتصال الجماهيري في نهاية القرن, ومن المؤكد انه سوف تزداد
أهميتها باذن الله بعد اختفاء الأمية العربية,
،4- كما ان المؤتمرات العلمية وما تُخلّفه من بحوث في المجال الانساني وأبحاث في الميادين التطبيقية
وعلومها عامل من عوامل نشر الثقافة العلمية على الجماهير,
باعتبار النتائج خطوات علمية على طريق التقدم الثقافي وتطوير انسان العصر بالجديد والعويص,
في نهاية عقد السبعينيات زرت ألمانيا بدعوة من حكومتها لشهر واحد, اطلعت فيه على مؤشرات الثقافة
الالمانية فوجدت الآتي: اهتمام للتوسع في بناء قصور الثقافة في كل الأحياء, وانتشار علماء الثقافة
الالمان وفنانيه في مراكز القارة الاوروبية في باريس وايطاليا ولندن وفيينا, اهتمام بحركة ترميم
الآثار, انفراج في الآداب الالمانية دون اهمال المصادر والينابيع الاصلية,
كمركز دولي من مراكز الارشيف الأدبي تقوم مهمته على weimer شاهدت معهد البحوث الأدبية في مدينة فايمر
ربط العلاقة بين الأدب الالماني القومي والآداب العالمية المعاصرة، بغية وضع اليد على الصورة التربوية
المثلى لمهمة الأدب ووظيفته في الحياة، أما الانشاءات الثقافية فكانت مائة مسرح درامي وعرائسي، ثمانون
أوركسترا سيمفوني 1100 دار للسينما، 960 ناديا ثقافيا، 610 متحف، ثمانية عشر ألف مكتبة، ستة آلاف ناد
بالقرى، 4300 ناد للشباب، 2000 ناد للعمال,
اضافة الى مدارس لتعليم الفنون، 87 مدرسة موسيقية تعد 33,500 طالب, ومليون ونصف من العمال يزاولون
الفنون الشعبية، ومراكز فنية لتعليم لفنون الهوايات باشراف مدرسات في الرسوم والفنون الجميلة, وهواة
يرسمون على الورق والقماش وبالألوان والباستيل والزيت تعبيرا عن موضوعات بيئية واجتماعية, ثم هواية
النسيج- وهو صناعة اقتصادية في أغلب بلاد العالم- في قاعات متعددة أُنشئت خصيصا للأطفال تُعد الأطفال
لثلاث مراحل, مرحلة البادئية، ومرحلة المتقدمين، واخيرا مرحلة المحترفين، والتي تصل فيها تعاليم
الهواية الى مستوى الاحتراف المهني بجودته سواء بسواء,
هذه هي الفروع الفنية التي تعمل الثقافة على انشائها وترسيخها دعما بالمال والنية الصادقة, لكنه من
المؤكد ان اعداد الجماهير وتأهيلهم لهذا الباب المفتوح على مصراعيه هو الطريق الأوحد لنشر ثقافة واعية
وعصرية, وان كان لي عمر فسوف أتعرض تباعا في عدة حلقات لماهية الثقافة وأهدافها بإذن الله تعالى,
هامش:
,A.G.P.MURDOCK(1)-
, 1963OUTLINE OF WORLD CULTURES
|
|
|