عندما يطربنا الشعر فنغنيه للأحبة د, رافدة الحريري*
|
كل انسان يعبر عن العواطف التي تختلج داخله بطريقة تريحه وطريقة جبل عليها,,وعندما يمنحه الله موهبة
الكتابة في مجال النثر بنوعية او نظم الشعر للتعبير عن شعوره تجده قد يبدع في المجالات التي تفاعل معها
عاطفيا، فالشعر العربي الاصيل كفن من فنون الادب له ابعاده وأوزانه وبحوره ولعل اهم ما يميزه هو ذلك
الايقاع الموسيقي الذي يخترق الاذن ليحرك المشاعر ويهز العواطف, والشعر الجيد هو ذلك الذي يضحك السامع
او يبكيه او يدغدغ عواطفه ليجعله يتفاعل مع مضمون القصيدة, وتحكي لنا كتب الادب العربي عن العديد من
ألوان الشعر كالرثاء والمديح والفخر والغزل والهجاء كما ان هناك ما يدعى بشعر الحكمة فالقارئ لديوان
الامام الشافعي رحمه الله يجده تجسيدا لهذا اللون ويلقى الكثير من التوجيهات السلوكية فيه، وعلى سبيل
المثال قوله
احذر عدوك مرة واحذر صديقك الف مرة فلربما انقلب الصديق فكان,, اعلم بالمضرة |
فالحذر من العدو أمر وارد لانه ينتظر الخطأ بل ويتمناه,, اما الصديق فقد ينقلب لسبب ما وعندها تحدث
الكارثة,, وقانا الله شر هذا النوع الرخيص من الاصدقاء,
ويقول في ديوانه:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من اجابته السكوتُ إذا كلمته فرَّجت عنه وان خليته كمداً يموتُ |
والسفيه هو ذلك الشخص الذي يقول مالا يفقه وتنقصه الحجة ويعلوه التهور,, ومن جميل ما طرح في ديوانه
الاشارة إلى ضرورة حسن الخلق والتنبيه الى قوله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) ،
ليصوغ ذلك شعراً سلسلاً جميلاً موجهاً إذ قال:
نعيب زماننا والعيب فينا ولا لزماننا عيب سوانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضا عيانا |
نعم ,, قد يأكل الانسان (الوضيع) لحم أخيه بالتناحر والتباغض والحسد وقول الزور وهذا مالا يفعله
الحيوان,, بل انه خلاف القيم والمبادئ السابقة,, لقد حرص الامام الشافعي على ان يقدم النصيحة ويوجه
القارئ ليلتزم بالخلق الحسن فسخر موهبته وعلمه في سبيل اصلاح ما فسد,, ومن الجدير بالذكر الشاعر أبو
الطيب المتنبي الذي قدم الكثير من هذا اللون من الشعر ومن أحلى ما قاله في هذا المجال,
وكل امريء يولي الجميل محببُ وكل مكان ينبت العز طيبُ |
فهنا اشارة إلى ضرورة الاحسان والكلمة الطيبة والترفع عن السفاسف والترهات كما انه اشارة إلى اهمية
حسن التربية ومكارم الاخلاق,, ومن أقواله المعروفة والمتوارثة من جيل الى جيل لتركيزها على اهمية سمو
الاخلاق ورفعتها قوله
وللنفس اخلاق تدل على الفتى أكان سخاء ما أتى أم تساخيا |
كما انه عبر بشكل فني رائع عن ضرورة قراءة تعابير الوجوه وفهم الاتصال غير اللفظي وتحليل معانيه بقوله
إذا نظرت نيوب الليث بارزة فلا تظنن ان الليث يبتسم |
هذا هو الجميل في الشعر,, عمق المعنى وجمال الموسيقى واختيار الالفاظ المناسبة لتؤثر في القارئ او
السامع فتهزه وتبلغه الرسالة المطلوبة, وللهجاء في الشعر العربي مسار آخر وأسلوب آخر فهو لون له
محترفوه وله محبوه ولعل ما كتبه الفرزدق وجرير وغيرهما في هذا المجال يعطينا الصورة الواضحة عن هذا
اللون,
ومن الابيات المتداولة في هذا اللون ما قاله احد الشعراء عن فئة من الناس كانوا أقل منه علما وفصاحة
ورجاحة رأي ومع ذلك اصدروا عنه حكما ظالما,, فوجد ذلك امرا سمجا ضحلا لا يتماشى ومكانته فقال:
تقولون هذا ليس بالرأي عندنا فمن انتم حتى يكون لكم عند؟ |
أما الآخر فقد قال يصف قوما عرفوا بالتجهم واللؤم وقسوة التعابير وشحة الابتسامة
قوم إذا صفع النعال وجوههم شكت النعال بأي ذنب تصفع |
ويحكي عن اقوال الهجاء في الشعر العربي انه اجتمع بعض الشعراء ليقول كل واحد منهم بيتا يهجو فيه
صاحبه,, فقال أحدهم
أنا القطران والشعراء جربى وفي القطران للجربى شفاء |
فرد عليه الآخر بقوله
أنا الموت الذي آتي عليكم فليس لهارب منه نجاء |
أما ذلك الشاعر الذي نظم من الشعر أجوده لكنه لم يلق استحسان القوم وقبولهم بل استخفافهم واعراضهم فقد
كتب يخاطبهم باسلوب فظ ينم عن استيائه عن فعلتهم قائلا
لو كان شعري شعير لاستعذبته الحمير لكن شعري شعور هل للحمير شعور؟ |
ويبدو ان هذا النوع من الهجاء تعلوه القسوة في اختيار الالفاظ,, إلا اننا لا نعلم ايهما نلوم الهاجي ام
المهجو فالمعنى في قلب الشاعر,
وفي الشعر العربي الاصيل اساليب طريفة مسلية ومرفهة يذكر على سبيل المثال منها ما حصل للخليفة المهدي
مع الشاعر الطريف ابو دلامة الذي طلب منه المهدي ان يرافقه في رحلته للصيد التي اصطحب فيها وزيره علي
بن سليمان,, وبينما كان الخليفة المهدي يرمي سهامه اصاب غزالا فاصطاده لكن الوزير بن سليمان رمى سهمه
ليقع خطأ على كلب,, هنا التفت الخليفة الى أبي دلامة وقال له,, صف ما رأيت شعراً فأنشد يقول
قد رمى المهدي ظبيا شق بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان رمى كلبا فصاده فهنيئا لكما,, كل امرء يأكل زاده |
هنا ضحك المهدي لذلك التعبير الطريف واجزل له العطاء,
لقد عرف عن العرب سرعة البديهة والذكاء فاشتهروا فيما مضى بالبلاغة والفصاحة وطلاقة اللسان,, ولم
يتركوا من فنون الادب العربي بابا إلا وطرقوه اما في مجال الشعر كفن نتحدث عنه، فقد قرضوا الشعر بل
وتفننوا في ذلك لدرجة انه بلغ ذروته ابان قيام الدولة العباسية إذ وصل إلى مرحلة اطلق عليها العصر
الذهبي لشدة الابداع وتالق الشعر العربي وتعدد مجالاته وكثرة مجالسه فلم يترك الشعراء مجالا إلا وخاضوا
فيه وتعدوا ذلك إلى الاحاجي والالغاز ومن طريف ما يروى عن سرعة البديهة واستخدام الشعر كوسيلة ان احدهم
لمح فتاة ثرية تدعى (صدقة) فاحتار في اختيار السبيل الذي يوصله إليها للتودد وطلب القرب,, فتنكر بلباس
متسول ثم قصد بيتها وعندما طرق الباب سمع صوتها من وراء ذلك تسأل عن الطارق فأنشد يقول
يا أهل هذي الطبقة هل عندكم من نفقة وسائل يطلب منكم ،( صدقة ) ؟؟ |
ردت عليه الفتاة على الفور
يا من رآنا سرقه احشاؤه محترقه جدك يا هذا الفتى حرّم عليك الصدقه |
وكانت الصدقة لا تحل لهذا الفتى لاعتبارات شرعية,, لكنه انصرف وقد زاد تعلقه بها لفصاحتها وذكائها وما
لبث ان تقدم لخطبتها والزواج منها,
كان التلاعب بالالفاظ فنا يتنافس عليه صناعه,, وبقي الشعر ردحا من الزمن يتبوأ القمة في الادب العربي
إلا انه تراجع وركد في فترة اطلق عليها الفترة المظلمة بالنسبة للشعر حيث انشغل الناس بأمور اخرى مما
اثر على سعة خيالاتهم فلم يتعد وصف بعض الاشياء البسيطة كالوسادة والمروحة اليدوية وغيرهما من الامور
المعروفة,, وقد كتب النواجذي يصف الوسادة بقوله
هي نفع ولذة للنفوس وحياة وراحة للجليس كم نديم ارحته باتكاء وتواضعت عند رفع الرؤوس |
ومع ذلك بقي الشعر معينا لا ينضب وبرز من الشعراء من اسس مدرسة للشعر مثل بدر شاكر السياب,, وهذا
الرصافي الذي نظم الكثير من الشعر وابدع في المواقف الانسانية كالارملة المرضعة والتي يقول في مطلعها
لقيتها ليتني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الاملاق ممشاها أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه للخد عيناها تمشي وتحمل باليسرى وليدتها حملا على الصدر مدعوما بيمناها كرّ الجديدين قد أبلى عباءتها فانشق اسفلها وانشق اعلاها |
وقال يصف الشمس حين الغروب
ذهبت تجر مع الغروب ذيولا صفراء تشبه عاشقا متبولا تهتز بين يدي المغيب كأنها صب تململ في الفراش عليلا ضحكت مشارقها بوجهك بكرة وبكت مغاربها الدماء,, أصيلا |
إذاً,, مر الشعر بفترات مختلفة بعضها جسدت روعته وبعضها بينت اهماله وأبرزت ضعفه لانشغال صناعه ،محبيه
بأمور هامة,, لكنه سيبقى ذلك الفن الادبي الرفيع الذي يوشح الادب العربي بسجعه وموسيقاه المحركة
للعواطف وسيظل يلهب النفوس حماسا ويبعث على الاعتزاز بلغتنا العربية الجميلة وفنونها العديدة التي لم
تقتصر على الشعر فحسب,
ولعلني اجدها مناسبة هنا لاقدم بعض الابيات المتواضعة التي نظمتها لكل طالبة علم,, وبالاخص طالباتي
اللاتي بدأن حاليا التطبيق العملي كخطوة اولى للابداع والعطاء,, لهؤلاء اللاتي كان مردود تدريسي لهن
حبا واحتراما وكلمات فخر واعتزاز ومراجعة مستمرة وتواصل حرصا على اتقان العمل,, إلى كل طالبة تحلت
بالاخلاق الفاضلة وبذلت ما بوسعها للبدء بالمسار الصحيح للعملية التعليمية واتخذت الكلمة الطيبة وحسن
الاداء شعارا لها,, اهدي ابياتي هذه:
من القلب
أنت الوريد وهذه شرياني من اجل عينيك التزمت مكاني من اجل عينيك جئت اليوم مندفعا من اجل عينيك غابت كل احزاني شدي يدي لنعمل كل نافعة واتبعيني,, فما غيرت عنواني!، فقد نذرت حياتي غير مكرهة من اجل منفعة,, ما مثلها ثان اظل بذرة علم اصلها راسخٌ وفرعها في السما يسقى بشرياني سأزرع الخير ان شاء الاله هنا وازرع الحب في قلب ووجدان واصقل الجيل تهذيبا وتربية واشكر الله,, كل الحب اعطاني بي تفخرين؟,, وانت جلّ مفخرة بها اطاول هذا اليوم بنياني ما دمت مؤمنة والله يرقبني استغفر الله ان يهتز ايماني يافلذة القلب انت الروح وانشطرت فاعطني فوق ما من قبل اعطاني صدري يربيك مثل الام,, فاصطبري والعقل يرويك مما ربي آتاني فلتعملي دائما والخير في عمل به يقدم في صدق لانسان تأبى جميع بحور الشعر رافضة ما رمت اعطيك من اعماق اركاني ستبد عين اذا ما كنت واثقة بزرعك الغض من ورد وريحان وتملئين الدنا حبا ومفخرة وتبطشين بعزم كل شيطان وتهملين اقاويلا تروِّجها ضمائر السوء من زور وبهتان لك التحية من روحي ارددها نقية رمتها تُسقى بتحنان |
هذا ولنا لقاء آخر في حديث عن الشعر العربي ومدى اعتزازنا به,, أسال الله سبحانه ان يقدرنا على الحفاظ
على لغتنا الجميلة ومفرداتها التي لا حصر لها,, فهل هناك اجمل من لغة القرآن الكريم؟
،*كلية التربية لإعداد معلمات الابتدائي
|
|
|