|
مشاهد مؤلمة من العراق.. |
تبكيني مثلكم مجموعة من المشاهد الدامية التي تسود الحياة اليومية في بلاد الرافدين..
تتكرر هذه المشاهد كل يوم بشكل استفزازي لكل مَنْ تدمع عيناه أمام ما يراه..
ويتواصل العرض أمامنا ليلاً وفي النهار بتحدٍّ سافر لمشاعر الناس ولعواطف المتابعين لما يجري في العراق..
يحدث هذا وكأنَّ الأمر لا يعني أحداً..
وكأنَّ مثل هذه الفواجع المؤلمة لا تهم كائناً من كان..
***
العراق الجريح إذاً أصبح أرضاً محروقةً..
كل موقع فيه هو اليوم مستباح ومعرض للأضرار من دون استثناء..
طالما كان هناك حجرٌ يتحرك..
أو ظلٌ لشبح يثير الانتباه أو الفزع..
وطالما أن هناك مقاومةً من العراقيين..
أو رفضاً لسياسات القوى المحتلة..
***
يبكيني سلوك مشين يمارسه السجّان بحق السُجناء العراقيين..
ومثله جريح يئن من الألم في بيت من بيوت الله، بينما يجهز عليه جندي يفتقر إلى أدنى درجات الشفقة والرحمة والتأدب بآداب قوانين أسرى الحرب..
يبكيني منظر شاب سوف يقضي بقية حياته معاقاً بفعل رصاصة غادرة من قناص قاتل..
ويبكيني منزلٌ هدمه المحتل بحجة تنظيفه من الأسلحة وعناصر المقاومة حتى ولو كانت حجتُه واهيةً ومجالَ شك..
***
أبكي لأمٍّ فقدت أبناءها..
وأب غاب ولن يعود إلى أهله..
أبكي متأثراً للأمن الذي فُقِد..
والحياة التي أصبحت جحيماً ..
وما مرَّ يومٌ دون أن أشعر بالألم والحاجة إلى البكاء على ما آل إليه الوضع في العراق..
***
لقد بشَّروا شعب العراق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان..
وأن عهداً جديداً سوف يطل على عراقنا وقد اكتسى بالنبل والأخلاق والفروسية..
وذكّروا هذا الشعب بأن العهد البائد قد انتهى وبنهايته انتهى الظلم والقتل والعذاب الذي كان..
وأن العراق سيكون النموذج والتجربة لعهد جديد يقوم على المساواة والعدل وحكم المؤسسات بديلاً لحكم الفرد..
***
وهاهو العراق اليوم..
تسوده الفوضى..
ويحكمه الحديد والنار..
ويتصرف بمقدراته أجنبيٌ محتلٌ..
وهاهو العراق اليوم يتحول إلى مستنقع كبير ملوث بالظلم والجبروت والتعدي على حقوق الإنسان..
***
ماذا بقي في العراق من مشاهد لا تبكي أحداً منا؟..
وهل ما نراه يمكن أن يوقف البكاء أو يُذكِّر بغير ذلك؟..
تمر بعض حوادثه اليومية أمام أنظارنا وتُخفَى بعضُها عنَّا، ويبقى ما نراه شاهداً على حجم المأساة التي يعاني منها هذا الشعب المنكوب وهذه الدولة التي ليس لها من خيار إلا أن تقاوم.
خالد المالك
|
|
|
مستشار سابق في سلطة التحالف يجيب عن هذا السؤال: كيف قادت أمريكا العراق إلى الهاوية ؟! * إعداد اسلام السعدني |
كيف أدت الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في العراق إلى ذاك الوضع الكارثي الذي تعاني منه البلاد؟ سؤال شكل محورا لمقال مطول نشرته دورية (فورين أفايرز) بقلم (لاري دياموند) الكاتب والباحث في معهد (هوفر) التابع لجامعة ستانفورد، والذي عمل أيضا في الفترة ما بين يناير إلى إبريل من هذا العام كمستشار رفيع المستوى لسلطة التحالف المؤقتة التي تم حلها بعد نقل السلطة إلى الحكومة العراقية المؤقتة في يونيو الماضي.
يستهل الكاتب مقاله بالقول إن عملية نقل السلطة التي تمت في الثامن والعشرين من يونيو والتي مثلت نهاية مفاجئة للاحتلال الأمريكي للعراق من الوجهة الرسمية لم تؤد إلى علاج المشكلات المستعصية التي تعاني منها البلاد منذ وقوع الغزو مثل العنف المستشري والاقتصاد المدمر والمجتمع المحطم.
ويشير دياموند إلى أنه على الرغم من أن بعض هذه المشكلات تعد عواقب حتمية للحرب التي شنتها واشنطن للإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلا أن ما حاق بالعراق من دمار فاق أسوأ توقعات الإدارة الأمريكية، موضحا أن هذا الوضع المأساوي ناجم عن سلسلة طويلة من الأخطاء التي وقعت فيها الولايات المتحدة مما أدى إلى استمرار نزيف الدم في الأراضي العراقية، وهي أخطاء أدت أيضا إلى إضعاف الفرص السانحة لإرساء دعائم الديمقراطية في العراق.
ويؤكد الكاتب في مقاله أن أحد أهم الأخطاء التي وقعت فيها أمريكا فيما يتعلق بالملف الأمني في العراق كان إحجامها عن توفير العناصر الضرورية لإرساء الأمن هناك وهو ما تبدى في عدم قيام وزارة الدفاع الأمريكية بنشر الحجم الكافي من القوات في العراق رغم تحذيرات الخبراء العسكريين من مغبة هذا الأمر.
ويلفت لاري دياموند النظر في هذا الصدد إلى أن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد ومساعديه لم يهتموا بالمطالبات الخاصة بزيادة حجم القوات الأمريكية في العراق.
ويطرح دياموند في المقال رؤيته في هذا الشأن، ومفادها بأنه كان يجدر بالتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق نشر 300 ألف جندي هناك، باعتبار أن هذا العدد كاف لضمان الأمن والاستقرار في البلاد.
وفضلا عن هذه الوحدات، كان من الضروري أن يقوم التحالف حسبما يقول دياموند ببذل جهود أكبر لضبط الحدود بين العراق وبين كل من سوريا وإيران لوقف عمليات تسلل المقاتلين والأموال والأسلحة وعناصر المخابرات إلى داخل الأراضي العراقية.
غطرسة البنتاجون
ويُرجع الكاتب هذا الفشل إلى تجاهل مسئولي (البنتاجون) للخطط الدقيقة الخاصة ب(عراق ما بعد الحرب) التي أعدها خبراء وزارة الخارجية نتيجة ازدرائهم لهؤلاء الخبراء، فبدلا من الاستعانة بهذه الخطط، افترض (البنتاجون) أن العراقيين سيرحبون بقوات التحالف كقوات تحرير، وأنه من الممكن للولايات المتحدة حينذاك تسليم مقاليد الأمور في البلاد إلى الساسة العراقيين الذين كانوا منفيين في عهد النظام السابق ك(أحمد الجلبي) على سبيل المثال، ذلك الرجل القادر بحسب ما رآه رجال وزارة الدفاع الأمريكية من إقامة دولة ديمقراطية بشكل سريع مما يسمح ليس فقط بالاعتماد على عدد أقل من الجنود الأمريكيين في البداية، بل وإمكانية تقليصهم في غضون عام من الغزو.
ويقول دياموند إنه كان من المنطقي أن تنهار هذه الافتراضات الساذجة سريعا بالتزامن مع انهيار الوضع الأمني في العراق، فيما وقفت القوات الأمريكية لا حول لها ولا قوة مما أتاح الفرصة لاندلاع موجة عارمة ومنظمة من السلب والنهب والتخريب طالت مختلف المؤسسات والبني التحتية العراقية.
وعلى الرغم من أن الأمر تطورت بعد ذلك إلى حركة مقاومة منظمة جيدة التمويل والتسليح، إلا أن الإدارة الأمريكية كما يرصد الكاتب في مقاله أصرت على أخطائها ورفضت إرسال مزيد من القوات إلى العراق، وضلل مسئولوها أنفسهم بتصورات من قبيل أن القضاء على هذه المقاومة ميسور وفي متناول اليد.
ويخلص الرجل للقول إن الأخطاء التي ارتكبت على صعيد الملف الأمني قوضت أي نقاط إيجابية قد تكون سلطة التحالف
المؤقتة قد حققتها خلال فترة توليها إدارة العراق من مايو 2003 وحتى يونيو 2004.
ثمن باهظ
وينتقل الكاتب بعد ذلك للحديث في مقاله عن الأخطاء التي ارتكبت على صعيد تشكيل قوات الأمن العراقية الجديدة، إذ يشير إلى أن هذه القوات لم تتلق التدريب الكافي ولم تزود بالمعدات الضرورية مما جعلها في النهاية هدفا سهلا للمسلحين وللمجرمين باعتبارها رمزا للدولة العراقية الجديدة.
ويقول دياموند إن تلك الأخطاء ترجع إلى الخطط المتعجلة التي وضعتها سلطة التحالف في هذا الصدد، وهي أخطاء أدت إلى استمرار حالة انعدام الأمن وهو ما دفع ثمنه غاليا المسئولون والساسة العراقيون مثلهم مثل مسئولي التحالف ومساعديهم من العراقيين سواء بسواء.
وقد أدى هذا الوضع الأمني المتدهور حسبما يؤكد لاري دياموند إلى أن تنعزل سلطة التحالف فعليا ونفسيا عن العراقيين بعد أن باتت تحركات مسئوليها محصورة فيما يسمى بالمنطقة الخضراء في بغداد وهي منطقة شديدة الحراسة تبلغ مساحتها ثلاثة أميال مربعة وقلت زيارات هؤلاء المسئولين إلى باقي المناطق العراقية بمرور الوقت.
معضلة الصدر
غياب التصميم في مواجهة التهديدات السياسية، مشكلة أخرى يرى دياموند أن سلطة التحالف عانت منها خلال فترة إدارتها للعراق، ويضرب مثالا على ذلك من خلال الكيفية التي تعاملت بها مع الزعيم الشيعي مقتدى الصدر.
ويقول الكاتب في هذا الشأن إن الصدر نجح في حشد مجموعات من الشباب الساخط محدود التعليم الذي يعاني من البطالة في عدد من المدن العراقية وهو ما عرف في النهاية باسم (جيش المهدي) وذلك دون أن يواجه التحالف ذلك ببلورة استراتيجية تصدٍ مناسبة، وإنما سعى إلى تجنب المواجهة مع الصدر.
بل ويضيف دياموند أن رغبة الإدارة الأمريكية في تحاشي مثل هذه المواجهة بسبب ما يكتنفها من مخاطر كانت السبب في إرجاء الكشف عن أمر الاعتقال الذي أصدرته إحدى المحاكم العراقية بحق هذا الرجل في أغسطس 2003 للاشتباه في ضلوعه في عملية اغتيال المرجع الشيعي عبدالمجيد الخوئي في إبريل من نفس العام، حيث لم يتم الكشف عن هذا الأمر سوى بعد عدة أشهر.
ويستغرب دياموند هذا الإحجام الأمريكي عن التصدي لمقتدى الصدر خاصة في ضوء أن هذا الرجل كان يلقى معارضة واضحة من قِبَل العديد من الزعماء الشيعة أنفسهم، وكذلك في ظل توالي النذر باتساع نفوذه وسطوة المسلحين الموالين له.
ولكن عندما آن الأوان أخيرا للمواجهة في الربيع الماضي، جرت هذه المواجهة كما يقول الكاتب بشكل مرتجل وفوضوي، حيث انطلقت أولى شراراتها من قرار بول بريمر رئيس سلطة التحالف أواخر مارس 2004 بإغلاق صحيفة (الحوزة) الناطقة بلسان التيار الصدري، مما دفع مقتدى الصدر إلى دعوة أتباعه للثورة ضد الاحتلال، وتلا ذلك بعدة أيام اعتقال أحد كبار مساعدي الصدر فتمثل الرد في إشعال نيران انتفاضة عارمة ضد قوات التحالف في مختلف المدن الشيعية، حيث تولى أنصار الزعيم الشيعي السيطرة لبعض الوقت وأقاموا علاقات تعاون مع الميلشيات المسيطرة على مدينة الفلوجة، تلك الميلشيات التي اضطرت القوات الأمريكية لإبرام اتفاق معها لإنهاء المعارك الدائرة بينهما حتى يتسنى لواشنطن التفرغ لمحاربة أنصار الصدر.
مواجهة الميلشيات المسلحة
ويشير دياموند في مقاله إلى أن سلطة التحالف لم تفشل فقط في إنهاء التهديدالذي يمثله مقتدى الصدر، بل انها لم تبذل أيضا أي جهد للتصدي للمجموعات المسلحة الأخرى الموجودة في البلاد مثل ميلشيات البشمرجة الكردية، إلى جانب الميلشيات التابعة لحزبي الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الشيعيين وهي ميليشيات لا تقل كفاءة أو تدريبا عن البشمرجة.
ويلقي الرجل الضوء على خطة وضعتها سلطة التحالف أوائل العام الجاري لنزع أسلحة هذه الميلشيات وتفكيكها وإدماج عناصرها في الشرطة والجيش العراقيين، قائلا إن هذه الخطوة اصطدمت بعقبات عدة من بينها رفض القادة الأكراد تفكيك البشمرجة تحسبا منهم لأية محاولات مستقبلية قد تقوم بها الحكومة المركزية في بغداد للسيطرة عليهم.
ومن بين هذه العقبات أيضا اندلاع المعارك على جبهتي النجف والفلوجة مما أدى إلى عرقلة الإعلان الرسمي عن الخطة والذي كان مقررا في الأول من مايو من ناحية، وكذلك اضطرار القوات الأمريكية لطلب الدعم من حزبي الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وذلك في إطار مساعيها لدحر جيش المهدي وهو الأمر الذي أضعف كثيرا نفوذ التحالف لدى هذين الحزبين من ناحية أخرى.
وعندما أعلنت الخطة أخيرا في يونيو كان الوقت ضيقا لتنفيذها قبل إتمام عملية نقل السلطة إلى الحكومة العراقية المؤقتة التي لا يبدو أن لديها العزم أو القدرة على القضاء على الميلشيات المسلحة الموجودة في البلاد.
ويشير دياموند إلى أن بقاء هذه الميلشيات على وضعها الحالي يهدد الانتخابات المزمع إجراؤها في العراق أوائل العام المقبل، إذ أن استمرار هذا الوضع من شأنه تحويل العملية الانتخابية إلى حمام دم مما يهدد نزاهتها ويجعلها في قبضة حاملي السلاح من الميلشيات الكردية في الشمال وتلك الشيعية المدعومة من إيران في الجنوب، وهو ما يعني أن الاحتلال الأمريكي للعراق ربما سيقود إلى ظهور نظام حكم ذي صلة وثيقة بطهران في بغداد.
غياب الاستراتيجية
نقطة أخرى يتحدث عنها لاري دياموند في مقاله ب(فورين أفايرز) ألا وهي أن حدوث تقدم ملموس على الصعيد السياسي أمر ضروري لإحراز تقدم مماثل فيما يتعلق بالوضع الأمني، ويدلل على صحة هذا الافتراض من خلال التأكيد على أن الكثير من العمليات المسلحة التي يشهدها العراق ينفذها المسلحون السنة الذين يعتقدون أنه سيتم استبعادهم من الساحة السياسية، مشيرا إلى أن هذه المسألة تؤكد أن احتواء العنف الراهن في البلاد يتطلب ما هو أكثر من استخدام القوة ألا وهو بذل جهود مستمرة لإقامة نظام سياسي يمثل مختلف القوى والتيارات الرئيسية.
إلا أن المعضلة التي حالت دون النجاح في إقامة هذا النظام كما يقول دياموند تمثلت في افتقار الولايات المتحدة لاستراتيجية سياسية فعالة للتعامل مع الوضع في عراق ما بعد الحرب.
ولذا فكما يشير لاري دياموند لم يدرك التحالف حقيقة أنه على الرغم من أن غالبية العراقيين كانوا يشعرون بالتقدير للإطاحة بنظام الحكم القمعي السابق في بغداد، إلا أن هؤلاء كانوا متشككين في الوقت نفسه من دوافع الولايات المتحدة ناهيك عن دوافع بريطانيا تلك القوة الاستعمارية التي احتلت البلاد خلال النصف الأول من القرن العشرين.
فشلت سلطة التحالف أيضا حسبما يؤكد دياموند في إدراك أنه لا تزال هناك شعبية لصدام حسين حتى بعد الإطاحة به من سدة السلطة، وذلك بين العرب السنة الذين عارض معظمهم إسقاطه إما لأنهم من بين مؤيديه أو نظرا لخشيتهم من أن تغيير نظام الحكم سيؤدي إلى أن يفقدوا هيمنتهم التاريخية على السلطة في البلاد على الرغم من أن عددهم لا يتجاوز 20% من السكان.
ويرصد الكاتب بعد ذلك خطأين استراتيجيين في التقدير وقع فيهما التحالف أولهما إطلاق حملة اجتثاث البعثيين التي شملت عددا كبيرا ممن لم يتورطوا بالفعل في الجرائم التي ارتكبت خلال عهد النظام السابق، أما الخطأ الثاني فتمثل في قرار بريمر بحل الجيش العراقي وذلك بدلا من فحص عناصره بدقة لاكتشاف من يصلح منها لخدمة الدولة العراقية الجديدة، وقد أدى قرار حل الجيش إلى أن يصبح عشرات الآلاف من الجنود والضباط لقمة سائغة لتنظيمات المقاومة التي سعت إلى تجنيدهم.
نقص المشروعية
وأشار دياموند في مقاله إلى أن شكوك العراقيين في دوافع أمريكا لغزو بلادهم مضافا إليها ذكرياتهم الأليمة عن حقبة الاستعمار الغربي إلى جانب الموقف الذي تتخذه واشنطن حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كل ذلك أدى إلى افتقار سلطة التحالف للمشروعية بشكل كبير، وهو ما دفع أمريكا للسعي للتعامل مع هذه المشكلة من خلال العمل على زيادة المشاركة الدولية في الإدارة السياسية لشئون العراق وهو ما كان عسيرا بالنظر إلى معارضة المجتمع الدولي للحرب من الأساس، بالإضافة إلى وضع القادة العراقيين في الواجهة بأسرع وقت ممكن، وكان أوضح سبيل للقيام بذلك يكمن في إجراء انتخابات وهو ما كان يريده آية الله علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في العراق منذ البداية، وذلك على الرغم من أن التجارب السابقة لعمليات الانتقال السياسي في البلدان التي شهدت حروبا كانت تؤكد ضرورة عدم التسرع في اتخاذ خطوة إجراء انتخابات عامة خاصة في ظل عدم توافر مقوماتها الأساسية.
ولذا بدلا من إجراء انتخابات، اتبع التحالف كما يقول دياموند استراتيجيات مختلفة للتغلب على مشكلة الشرعية السياسية المفتقدة التي حققت درجات متفاوتة من النجاح من بينها إقامة مجالس محلية في العديد من المدن والبلدات الكبرى في العراق.
ولكن تلك المجالس المحلية عانت حسبما يوضح الرجل من انعدام السلطات الممنوحة إليها، وقلة الموارد المتاحة لها، وكل ذلك أدى إلى أن تهدر سلطة التحالف فرصة مهمة لزيادة شرعيتها، وهو ما جعلها تقرر في يوليو 2003 تشكيل مجلس الحكم الانتقالي الذي كانت له صلاحيات استشارية فحسب.
ويتحدث الكاتب عن تجربة مجلس الحكم الذي كان يضم شخصيات ممثلة لبعض القوى العراقية الرئيسية الشيعية والكردية، بالإضافة إلى ممثلين عن عدد من العشائر العراقية وبعض الأحزاب القديمة مثل الحزب الشيوعي وكذلك بعض المقربين من السيستاني.
وتناول لاري دياموند العيوب التي شابت هذه التجربة، مشيرا إلى أن من أبرزها الصورة التي أخذها العراقيون عن المجلس بسبب وجود عدد كبير من الزعماء المنفيين المثيرين للجدل فيه مثل أحمد الجلبي.
دور الأمم المتحدة
في الوقت نفسه أوضح الكاتب أن الولايات المتحدة فشلت في توسيع التحالف الذي تقوده في العراق ليضم دولا أخرى لتُكسبه مزيداً من الشرعية.
وحتى البعثة التي أرسلتها الأمم المتحدة إلى العراق في الثاني من يونيو 2003 برئاسة سيرجيو فييرا دي ميللو لم تنجح كثيرا في إحداث تغييرات جذرية على خطط التحالف رغم أن دي ميللو كان أحد أقدر الخبراء الدوليين في مجال استعادة الأمن والسلام.
ويشير دياموند إلى أن هذا الفشل يرجع جزئيا إلى الهجوم الإرهابي الذي تعرض له مقر الأمم المتحدة في بغداد خلال أغسطس 2003 مما أدى إلى مقتل دي ميللو ومعه عشرات من موظفي المنظمة الدولية وقاد في النهاية إلى خروج الأمم المتحدة من العراق.
إلا أن الكاتب يعود ليشير إلى أنه حتى قبل هذا الحادث لم يكن بريمر يرى أهمية حقيقية لدور بعثة المنظمة الدولية، ولم
يطرأ أي تغيير على هذا الموقف حسبما يقول دياموند سوى متأخرا للغاية في الخامس عشر من نوفمبر 2003 عندما تم الكشف عن الاتفاق الخاص بنقل السلطة في العراق، وما أعقب ذلك من لجوء أمريكا إلى الأمم المتحدة لمساعدتها على رسم المسار الخاص بهذه العملية.
ويوضح الكاتب أن بنود اتفاق 15 نوفمبر واجهت العديد من الانتقادات خاصة من قبل السيستاني الذي طالب بأن يكون البرلمان الانتقالي المنصوص عليه في الاتفاق ثمرة انتخابات مباشرة وليس نتيجة لانتخابات تجرى بأسلوب المجمعات الانتخابية كما كان منصوصا على ذلك في الأصل.
وبقول الرجل إن هذه الصعوبات دفعت الإدارة الأمريكية إلى الاستعانة بالأمم المتحدة وبالتحديد بمبعوثها المخضرم الأخضر الإبراهيمي الذي كانت له تجربة مماثلة في أفغانستان كللت بالنجاح، وبالفعل استطاع الإبراهيمي الذي بدأ مهمته في يناير من العام الجاري إقناع السيستاني بأنه من غير الممكن تنظيم انتخابات مباشرة ذات مصداقية قبل موعد نقل السلطة في الثلاثين من يونيو، وهكذا وافق المرجع الشيعي الكبير على أن تعقد الانتخابات أواخر هذا العام أو أوائل العام القادم بحد أقصى، وذلك مقابل إلغاء فكرة تطبيق نظام المجمعات الانتخابية وهو ما فتح الطريق أمام اختيار حكومة عراقية مؤقتة بالتشاور مع الأمم المتحدة تولت مهامها اعتبارا من 28 يونيو الماضي.
قانون إدارة الدولة
وينتقل لاري دياموند بعد ذلك للحديث عن قانون إدارة الدولة الانتقالي الذي كان جزءا من اتفاق 15 نوفمبر، واعتبرته إدارة بوش أحد أهم العناصر التي تسعى لإنجازها في العراق من منطلق أنه يشكل إطارا دستوريا انتقاليا يضمن قيام حكومة ديمقراطية ويحافظ على الحريات الفردية في البلاد.
وفي هذا الإطار عكف خبراء قانون أمريكيون وعراقيون إلى جانب مستشاري سلطة التحالف فيما بين ديسمبر 2003 وفبراير 2004 على وضع المسودة الأولى لمشروع هذا القانون، واتفقوا على ضرورة حماية حقوق الإنسان والحريات الفردية، ولكن الخلاف الحقيقي تمحور حول شكل نظام الحكم وكيفية تقسيم السلطات بين المركز والأطراف خاصة بين الحكومة المركزية في بغداد والحكومة الإقليمية في كردستان العراق، وكذلك بشأن دور الدين وطبيعة العملية التي سيتم إقرار الدستور النهائي من خلالها، وهي خلافات عبرت عن الانقسامات الناشبة في البلاد بين الطوائف الدينية والعرقية.
ولفت لاري دياموند النظر إلى أن البنود الخاصة بوضع الأكراد في الدولة العراقية الجديدة كانت محورا لجدل محتدم خاصة في ظل مطالب الأكراد بالاحتفاظ بحكومتهم الإقليمية التي كانت تتولى إدارة الأمور في منطقة الحكم الذاتي التي حصلوا عليها في شمال العراق بعد حرب الخليج الثانية، وأيضا مطالبهم بإقامة نظام لا مركزي في العراق أشبه بالنظام الكونفيدرالي.
ويوضح دياموند أنه تم الاستجابة لمطالب الأكراد عند وضع قانون إدارة الدولة، ولكن هذا لم يكن كافيا على ما يبدو للأكراد، حيث طالبوا في اللحظات الأخيرة بضرورة أن ينص القانون على أن يكون لأي ثلاث محافظات عراقية الحق في رفض الدستور النهائي من خلال استفتاء، والمعروف أن هؤلاء الأكراد يشكلون الأغلبية في ثلاث محافظات عراقية بالفعل.
ويضيف الكاتب أنه تمت الموافقة على هذا المطلب أيضا، وهو ما أثار حفيظة الشيعة ودفعهم للانسحاب في اللحظات الأخيرة من اجتماعات مجلس الحكم الخاصة ببحث هذا القانون وذلك لإجراء مشاورات مع السيستاني في النجف قبل أن يعودوا مرة أخرى ويوافقوا على مشروع القانون ولكن بعد أن تعهدوا بالعمل على تنقيح القانون فيما بعد خاصة المادة التي
أدخلها الأكراد بشأن حق المحافظات في الاعتراض على الدستور النهائي.
ويشير دياموند إلى أنه فيما سعت سلطة التحالف ومجلس الحكم إلى الإسراع بإقرار القانون دون الالتفات لتلك الخلافات العميقة الناشبة بشأن بعض بنوده، شعر الكثير من العراقيين بأن ذلك القانون يعطي الكثير من الحقوق للأقليات العرقية خاصة الأكراد، مما جعلهم يشعرون بالخوف من أن يكون القانون مقدمة لتفكك البلاد.
سؤال الديمقراطية
وينتقل الكاتب إلى النقطة الأخيرة في مقاله المطول والتي يحاول فيها الإجابة على سؤال مهم مفاده: ( هل يمكن أن يصبح العراق دولة ديمقراطية في يوم من الأيام؟).
ويجيب دياموند على هذا السؤال بقوله إنه على الرغم من الثغرات المتعددة التي شابت جهود سلطة التحالف لإرساء دعائم الديمقراطية في العراق، إلا أن هناك جوانب إيجابية تم تحقيقها في هذا الشأن من بينها المساعدات المالية والفنية التي تم تقديمها لمنظمات المجتمع المدني العراقية، مشيرا إلى أن ذلك الدعم كان مفيدا بشكل خاص بالنسبة للتنظيمات المهتمة بحقوق المرأة والتي تمكنت من خلاله من أن تحفظ لنفسها نسبة 25% من مقاعد البرلمان، كما كان مفيدا أيضا بالنسبة للأحزاب العراقية الوليدة حتى تتمكن من الظهور على الساحة السياسية.
ويختتم لاري دياموند مقاله في مجلة ( فورين أفايرز) بالقول إن مرحلة ما بعد نقل السلطة في العراق ستكون طويلة ودموية في مراحلها الأولى على الأرجح، وأنه من غير الواضح ما إذا كانت البلاد ستستطيع تنظيم انتخابات ذات مصداقية في يناير القادم، مشيرا إلى أنه حتى لو أجريت هذه الانتخابات بشكل مرضي إلى حد ما فمن غير المتوقع أن يتم التطبيق الكامل للجدول الزمني الطموح الذي يحدد باقي خطوات العملية السياسية في الأراضي العراقية وهي تلك الخطوات المتعلقة بقيام البرلمان الانتقالي الذي ستتمخض عنه الانتخابات العامة بانتخاب حكومة انتقالية تتمتع بسلطة تشريعية، وذلك تمهيدا لوضع دستور جديد دائم يتم إجراء استفتاء عام بشأنه خريف العام القادم وذلك بهدف تنظيم انتخابات عامة شاملة نهاية 2005 تتولى بعدها حكومة عراقية منتخبة السلطة في البلاد أوائل 2006.
وفي النهاية وعلى الرغم من كل العقبات التي تواجه عملية التحول السياسي في العراق، إلا أن لاري دياموند يرى في ختام مقاله بمجلة (فورين أفايرز) أنه لا يوجد بديل أفضل لهذه العملية، وأن أي بديل آخر تكمن في طياته مخاطر من قبيل اندلاع حرب أهلية في العراق، مؤكدا أن عملية التحول هذه تحتاج إلى دعم هائل من قبل المجتمع الدولي على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية لمدة عام قادم على الأقل .
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|