المجلات السينمائية التي صدرت أو لا تزال تصدر حملت مشاكلها على صفحاتها. عوضا عن أن تحل إشكالاً ثقافياً، أعيت القرّاء بمشاكلها هي. فهي إما أكاديمية مكتوبة كمنشورات بلا أي حس صحافي. وإما هي دعايات لأفلام البلد أو دعايات لأفلام المنتجين. وإذا لم تكن أي من هذا أو ذاك، فهي دعاية للذين يكتبونها. في كل الأحوال وعلى الرغم من أن السينما عليها أن تكون صورية، صحافية، آنية، سهلة الوصول وعميقة المضمون في آن واحد، لكنها لم تكن كذلك خلال ما صدر وما يزال يصدر من مجلات. لكن إخفاق النقد العربي في أن تكون لديه مجلة صحيحة، يتجاوز هذا الحد ويمتد ليشمل إخفاقه العام في تكوين حالة ثقافية سينمائية أكيدة وفاعلة.
شروط نقدية
ترى ما الذي يتطلّبه الأمر لأن يصبح صاحب رأي ما في الفيلم، ناقداً سينمائياً؟
هناك عشر خصال على الناقد السينمائي التمتّع بها قبل أن يعلن عن ولادته ناقداً سينمائياً. وعلينا أن ندرك أنه لا أحد يولد كاملاً ولا أحد يستطيع أن يصبح كاملاً، هذه من سنن الحياة كما خلقها رب العالمين، لكن ما نستطيع دوماً أن نفعله هو طلب الأفضل. التعلّم والثقافة والسعي الى إتقان ما نقوم به وذلك تبعاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلّم.
إذاً ما هي هذه الخصال العشر؟ من هو الناقد السينمائي الفعلي؟ لنجرّب هذه الشروط الأساسية:
* الناقد السينمائي هو من لديه معرفة تمتد طولاً وعرضاً وعمودياً في السينما تاريخاً وصناعة وإنتاجاً وذوقاً وفناً وتقنية وعلماً وإعلاماً وفكراً.
* من لا يتوقّف عن مشاهدة الأفلام ولا عن قراءة التاريخ والنظريات والبحث في السينما كفن.
* من لا يستعير من معلومات الحياة العامّة تمهيدات طويلة لموضوعه فيملأ مقالته النقدية بكلام عن الموضوع الذي يتطرّق إليه الفيلم وبقليل جداً عن الفيلم نفسه. فإذا كان الفيلم يدور عن الكاتب ترومان كابوت، ملأ المقالة تمهيداً طويلاً عن الكاتب، كما لو أن هذا أباح له بأسراره ولم ينقلها عن مرجع ما، بدلا من أن يخصصها للفيلم نفسه.
* هو أيضاً من يشاهد كل الأفلام من دون شعور بأن هناك شيئاً أقل مستوى من ذوقه وفهمه وميوله. بذلك، هو الشخص الذي يؤمن بأن الناقد مثل طبيب الأسنان، إما أن يفهم في الأسنان كلّها أو أنه لا يفهم في أي منها.
* من يضع السياسة جانباً حين الحديث عن الفيلم الا في الحالات التي يتطرّق فيها الفيلم فعلاً إلى السياسة.
* من لديه هم نشر الثقافة السينمائية بين الناس.
* من يكتب أساساً في السينما، والكتابات الأخرى، إن وُجدت، فهي جزء مساند في مهنته.
* من يفهم في كل الأمور التي يتكوّن منها الفيلم فيستطيع تصوّر قدرات المخرج والسيناريست والممثل ويستطيع الحكم في تلك القدرات والحكم في قدرات باقي أصحاب العناصر الفنيّة.
* من لا يستعين بالفذلكة اللغوية، كمفردات أو كأسلوب، لتغطية فراغ كلماته، ليقول (أنا ناقد مثقّف فانتبهوا).
*الناقد هو الذي يلعب دور الوسيط بين المُشاهد، ومن ورائه الجمهور العريض، وبين الفيلم ومن ورائه السينما بكاملها. وفي ممارسته لهذا الدور عليه أن يوفر لمشاهديه ما أمكنه من معلومات موثوقة.
فن وتجارة
المُشاع في الأروقة العالمية، والعربية جزء منها، أن التفريق واجب بين سينما جماهيرية وسينما فنية. وستجد المنتجين والموزّعين والمواطنين العاديين مؤيّدين للسينما الجماهيرية، بينما ستجد المثقّفين وحدهم، تقريباً، في تأييدهم للسينما الفنية.
ستجد أيضاً حقيقة أن التاريخ من بدايته تكوّن من قلّة من المفكّرين والمثقّفين والفنانين ومن غالبية من الذين يتدرّجون في هذه الميادين، من عادمي العلم الى المتعلّمين وليس كل متعلّم مثقّف.
حين تنظر الى فيلم (غاندي) مثلاً، وهو الذي عمد الى قراءة تاريخ تلك الشخصية، تجد صاحبه أم كل المواصفات التجارية التي يستطيع الفيلم احتواءها: ميزانية كبيرة (في أيامه)، سيرة حياة متعدّدة الأحداث، ممثّلون معروفون، تصوير خلاّب، واستغلال للموضوع لأجل الوصول الى آخر مُشاهد ممكن. في الوقت ذاته، تم اعتبار الفيلم (فنياً) وأمّ مهرجانات وحصد أوسكارات. لا أقول إنه فيلم جيّد أو رديء لكونه تضمّن العناصر الممكن ان تجعله تجارياً في الوقت الذي لا أقول فيه ان الفيلم الفائز بالأوسكار يوم الأحد الماضي هو فني لأنه فاز بأهم جائزة في العالم. فالجودة هي معيار واحد سواء أكان الفيلم (تجارياً) أو (فنيّاً). وطالما أن الفيلم المصنوع، بصرف النظر عمن صنعه ولماذا، متوجّه الى صالة عرض، أو إلى محل فيديو، فإنه عمل تنطبق عليه واحدة من أهم صفات السينما التجارية وهي أنه للبيع، شأنه في ذلك شأن (ليلة في المتحف) أو (أقدام سعيدة) أو (صعود هانيبال) أو سواها من أفلام اليوم.
فلتر دقيق
هذا التقسيم الغبي هو الذي حرم نقادنا العرب، في معظمهم، من نعمة مشاهدة ألوف الأفلام المسمّاة تجارية لأنهم اعتقدوا، وبعضهم لا يزال يعتقد إلى اليوم، أنها أفلام لا تحتوي على شيء مهم. بذلك، فاتتهم متابعة أعمال كلينت ايستوود على أساس أنه (نجم هوليوودي) واهتمّوا بأفلام عبّاس كياروستامي على أساس أنه مخرج غير هوليوودي. الحقيقة أن لقطة واحدة من أي فيلم أخرجه كلينت ايستوود، من أول أفلامه في مطلع السبعينات، هي أكثر سينمائية من كل الأفلام التي أخرجها الإيراني كياروستامي.
بعضنا، هتف للمخرج اليهودي أموس غيتاي، على أساس أنه يساري وهاجم من يهاجمه على أساس أن المهاجم إنما ينظر الى هوية المخرج اليهودية بتعصّب. هذا الكلام الغوغائي منع كثيرين من حسن تقييم عمل سينمائي لا يملك المفردات الصحيحة للتعبير بل تسترسل المشاهد الى ما لا نهاية ومن دون رديف شعري أو عمق ضمني أو بعد ميتافيزيقي كما الحال مع أندريه تاركوفسكي أو كن أتشيكاوا أو بيلا تار.
المسألة المثارة هنا، في نهاية المطاف، هي وضع النقد العربي، على الأخص، حين تختلط الأمور وتضيع الهويّات. ففي حين أن من حق شخص إبداء رأيه، يبقى أن عملية الكتابة عن الأفلام يجب أن تمر بفلتر دقيق اسمه حب السينما. وهو ليس سوى الفلتر الأول، فحبّها يعني ألا تتوقّف معتبراً أن ولديك زاوية تكتب فيها ما تشاء. على العكس، الناقد لديه رسالتان: واحدة هي نشر حب الفن الراقي بين الناس، أينما وجده، وأخرى هي البقاء طالباً مجتهداً في المضمار الذي اختار العمل فيه.