إعداد - أشرف البربري:
تناولنا في الحلقتين الأولى والثانية عن المعجزة الكورية الجنوبية؛ الجوانب التاريخية والاقتصادية والسياسية لدولة كوريا الجنوبية التي لا يزيد عمرها الرسمي على 60 عاماً لكنها استطاعت أن تتحول إلى قوة اقتصادية يحسب لها العالم كله حساباً.
وفي الحلقة الثالثة والأخيرة نتناول الجانب التعليمي من النهضة الكورية. فلا يمكن الحديث عن المعجزة الاقتصادية والتكنولوجية التي حققتها كوريا الجنوبية خلال أقل من أربعة عقود دون التطرق إلى نظام التعليم بعد أن اتفق العالم على أن وراء كل نهضة اقتصادية واجتماعية نظاماً تعليمياً فعالاً.
وبالفعل تمكنت كوريا الجنوبية من جعل نظام التربية والتعليم بها أداة فعالة في مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أرضها بعد أن عانى شعبها من الاحتلال والقمع على مدى عشرات وربما مئات السنين حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين. ويهتم النظام التربوي في كوريا الجنوبية باكتساب المهارات وتعزيز القدرات الأساسية، والتطوير النوعي للتربية العلمية، فيهتم منذ مرحلة رياض الأطفال بتربية الأطفال وبناء أجسامهم وتنمية لغتهم وذكائهم وغرس قيم التكيف الاجتماعي في نفوسهم وسلوكهم.
والمرحلة الابتدائية في كوريا مرحلة إجبارية للجميع، ثم تأتي المرحلة المتوسطة لتكون إجبارية في بعض المناطق وبخاصة مناطق صيد الأسماك والمناطق الزراعية. وكدليل على مكانة التعليم لدى أبناء الشعب الكوري الجنوبي يكفي أن نعلم أن المرحلة الثانوية غير ملزمة وغير مجانية، إلا أن نسبة التحاق من أنهوا المرحلة المتوسطة والتحقوا بالثانوية تصل إلى 94%. وهناك عدة عوامل وراء هذه الحقيقة منها المرونة التي توفرها برامج المرحلة الثانوية والمتمثلة في التشعيب الموجود (أكاديمي - فني- مهني - مراسلة) كما أن أن المرحلة الثانوية تُعِدُّ الإنسان للدراسة وللحياة في آن واحد ثم إن نحو تسعين في المئة من خريجي التعليم المهني ينخرطون في سوق العمل، بينما يتجه الباقي منهم إلى مواصلة الدراسة. فضلاً عن أن المناخ التربوي، يجعل التعليم والثقافة المعاصرة فرصة سانحة من خلال الاستفادة من التلفزيون والإذاعة.
تستوعب المدارس الابتدائية أربعة ملايين طالب يمثلون 100% من الأطفال في عمر دخول المدرسة، إضافة إلى أربعة ملايين طالب كانوا في الوقت نفسه في المرحلة المتوسطة، ونحو 825 ألف طالب في المدارس الفنية والثانوية. يقف على رأس إدارة المدرسة الثانوية في كوريا الجنوبية مدير مسؤول لا يصل إلى هذه الدرجة إلا إذا أمضى خمسة وعشرين عاماً في مهنة التعليم.. وإن كان هذا الشرط يبدو قاسياً غير أنه يوفر الخبرة، ويرفع من كفاية عملية التعليم، ويزيد من فاعلية المدرسة في أداء وظيفتها. كما يحظى التعليم بنحو 21% من إجمالي الموازنة العامة للدولة. وأبرز ما يميز النظام التعليمي في كوريا الجنوبية ما يعرف باسم التوجيه والإرشاد الطلابي كجزء مهم في المنظومة التعليمية قلّما يلتفت إليه الباحثون والكتاب.
دخلت فكرة التوجيه والإرشاد الطلابي إلى كوريا الجنوبية عام 1949 على يد أحد الأساتذة ممن تخرجوا في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1954 تضمن برنامج تدريب المعلمين أثناء الخدمة مقرراً في الإرشاد والصحة العقلية.
وفي عام 1957 استحدثت وزارة التربية وظيفة المدرس المرشد، وبدأت برامج تدريب المدرسين في مجال التوجيه والإرشاد. وقد قامت كلٌّ من جامعتي (سول) الوطنية وجامعة كيني بوج الوطنية بتقديم برامج تدريبية أثناء الخدمة للمدرسين - المرشدين، وتضمنت هذه البرامج المقررات الآتية: سيكولوجيا السلوك الإنساني، وأسس التوجيه والإرشاد، وعلم نفس النمو، واختبارات المقاييس النفسية بالإضافة إلى الصحة العقلية. وقد انصب اهتمام المرشدين في السنوات الأولى على الاختبارات والمقاييس وبرامج الإرشاد المهني، وتمَّ بناء وحدة للاختبارات النفسية في كوريا.
التعليم المهني
ولكي يتم استقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب للتعليم المهني ركَّزت برامج الإرشاد من خلال المرشدين على تأكيد سمو وأهمية العمل المهني لأنه أساس تطور البلاد، وقد واكب هذه الحملة الإرشادية بناء معاهد لتعليم المهن على أحدث طراز، ويضاهي مباني المدارس الثانوية، وزودت هذه المعاهد بكل ما تحتاجه من وسائل تعليمية ومرافق رياضية. وعلى الرغم من كل هذه الجهود فقد ظل الآباء والطلاب ينظرون إلى التعليم الثانوي الأكاديمي على أنه أعلى معنوياً من التعليم المهني، وظلت معاهد التعليم المهني لفترة من الزمان تعاني من قلة الإقبال عليها. وعلى الرغم من أن نظام التعليم ما قبل المرحلة الابتدائية ليس إلزامياً حتى الآن، إلا أن أهمية هذا النظام قد ازدادت في السنوات الأخيرة.
ففي عام 1980، وصل رياض الأطفال إلى 901 فقط في أنحاء كوريا كلها. وفي عام 2002م وصل عددها إلى 8343 روضة وتقوم الحكومة الكورية بتنفيذ مشروع شامل لمساعدة تربية تلاميذ رياض الأطفال منذ عام 1999 الذي يهدف إلى تربية أطفال الأسر ذات الدخل المنخفض، كما يقدم للأطفال المعدمين أفضل الفرص للتعليم قبل المرحلة الابتدائية من خلال إنشاء البيئة التعليمية العادلة. وقد وصلت نسبة الطلاب إلى المعلمين في المدارس الابتدائية إلى 58.8 طالباً للمعلم الواحد في عام 1960م. إلا أن هذه النسبة انخفضت إلى 28.1 طالباً للمعلم الواحد في عام 2002م. وبلغ عدد الطلاب في الصف الواحد 34.9 طالباً في عام 2002م. وانخفض هذا العدد إلى 31.2 طالباً في عام 2003م.
ويتعين على معلم المرحلة الابتدائية إكمال دراسته في كلية التربية مدة أربع سنوات. وتوجد أنواع متعددة من المؤسسات التعليمية العليا كما يأتي: الكليات والجامعات ذات البرامج التعليمية مدة أربع سنوات (كليات الطب وطب الأسنان ومدة الدراسة فيها ست سنوات)، كليات للمعلمين ومدة الدراسة فيها أربع سنوات، كليات الإعلام، الجامعات المفتوحة، مدارس متنوعة في مكانة الكليات ومدة الدراسة فيها سنتان أو أربع سنوات مثل مدارس التمريض ومدارس الدراسات اللاهوتية والكليات المهنية مدة سنتين). وفي عام 2002م وصل عدد معاهد التعليم العالي إلى 358 معهداً في كوريا ويدرس فيها 3.31 ملايين طالب و59750 عضواً في هيئة التدريس.
يخضع نظام التسجيل في الكليات والجامعات إلى قواعد صارمة من حيث إن قبول الطلبة في الجامعات يقرر طبقاً لدرجات الطلبة في المدارس الثانوية، ونتيجة الاختبار الوطني. وبالإضافة إلى ذلك، يتطلب الالتحاق ببعض الكليات والجامعات المرور باختبار كتابة المقال الإضافي الذي تديره هذه الكليات والجامعات منذ 1996م.
وأخيراً يمكن القول إن كلفة التعليم بالنسبة إلى الأسرة الكورية الجنوبية ليست بسيطة، لكنها في الوقت نفسه ليست مرتفعة بصورة تجعل المواطن العادي غير قادر على توفير فرصة التعليم الملائمة لأطفاله. وينبع الاهتمام بالتعليم في كوريا من الفلسفة الكونفوشيوسية التي تقول إن التعليم هو المفتاح الوحيد للنجاح في المستقبل والحاضر. وهناك مذهب مثالي يقول إن هدف التعليم هو استفادة كل الجنس البشري.. وما زالت هذه التقاليد قائمة في الحياة الاجتماعية للشعب الكوري.