|
لماذا..؟!
|
عندما يحاول أي منا أن يحصل على تأشيرة سائح تعطيه الحق في الدخول الى الولايات المتحدة الأمريكية فان الانتظار سوف يطول به قبل أن يستجاب لطلبه، إن كان صاحب حظ سعيد في الحصول عليها..
بعضنا يتقدم للسفارة لأخذ موافقتها على دخول الأراضي الأمريكية للدراسة أو للعلاج، فيواجه من المسؤولين بشيء من التردد بعد لقاءات وفتح محضر تحقيق معه وربما انتهى الأمر بعدم الموافقة على طلبه..
وفي بقية دول الغرب هناك تغير واضح في معاملة سفاراتها مع كل من يحمل الهوية السعودية، فقد أصبح يقابل عند حاجته إلى تأشيرة دخول لأراضيها مهما كانت مبرراتها بشيء من الخوف والريبة والشك.
***
وعلى المستوى المحلي..
هناك نقاط تفتيش مرورية في كل مكان بما لم نعتده من قبل للتأكد من هوية كل منا ومن أنه لا يشكل خطراً أمنياً على بلاده..
وهناك تطويق أمني لبعض الأحياء ومراقبة أمنية متواصلة لأحياء أخرى للحيلولة دون إساءة الإرهابيين لأمن المواطن وللأمن في الوطن..
وهو ما عطل حركة السير وعرقل انسياب مرور المركبات على امتداد الطرق بين المدن وداخلها.
***
أسألكم بعد كل ذلك، مَنْ الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم..؟
مَنْ المسؤول عن ذلك..؟
ولماذا وضعنا أنفسنا في هذا الموقع الذي ما كان ينبغي أن نصل إليه..
وأين هي المصلحة التي تحققت لنا في كل ما حدث من تفجيرات محلياً ودولياً..؟
وهل قمنا بمقارنة ولو سريعة بين ما كنا عليه وما أصبحنا نئن اليوم منه..؟
***
كانت كما تذكرون أبواب السفارات الأجنبية مفتوحة للسعوديين وتقدم الخدمة لنا بشيء من التميز..
وكانت جامعاتها ومصحاتها في خدمة الراغبين والمحتاجين منا..
وكنا نجد عند وصولنا إلى مطاراتهم مرونة لا تُعطى لغيرنا لإنجاز إجراءات الدخول المعتادة..
كنا نشعر كسعوديين بمعاملة خاصة متميزة نباهي بها ويغبطنا الآخرون عليها..
فما الذي تبدل وتغير وأوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من حال لا تسر..؟
***
أحداث الحادي عشر من سبتمبر..
وما سبقها وما جاء بعدها..
وتلك الأسماء السعودية التي ورد ذكرها ضمن مَنْ قام بهذه الأعمال الإرهابية..
هي بالتأكيد ما قادتنا إلى هذا الوضع المقيت..
وليس عندي شك في ان التمادي بممارسة هذا الأسلوب من الأعمال الإرهابية قد يقودنا الى ما هو أسوأ...
فهل نفكر..؟
وهل حان الوقت للتفكير..؟
أم أننا لا نزال في غيّنا..؟!
خالد المالك
|
|
|
بين جحيم الحرب ونار الهوية! أوقات صعبة عاشهاالأمريكيون من أصول عراقية مقابلات "طوعية" مع عملاء فيدراليين لا يجرؤ أحد على رفضها حين قالت الأم: جسدي هنا.. وروحي هناك!
|
* إعداد محمد داوود
خلال الحرب الإنجلو أمريكية على العراق، وجد الأمريكيون من أصول عراقية أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، فالبلاد التي أصبحوا يحملون جنسيتها وأقسموا اليمين على أن يكون ولاؤهم لها خالصا وهي الولايات المتحدة، قامت بشن حرب ضد بلدهم الأم التي ولدوا وترعرعوا فيها ويشعرون بالحنين إلى ترابها وأهلها.
وجد هؤلاء أنفسهم في حيرة من أمرهم. مع من يقفون؟ هل مع الولايات المتحدة التي ذهبت للعراق بحجة تحريره من الطاغية وإقامة نظام ديموقراطي فيه، أم مع العراق البلد المنهك الذي عانى من ويلات الحروب الشيء الكثير.
فجأة وجد هؤلاء أنفسهم في موضع اشتباه من قبل وكالة المخابرات الأمريكية وتعرض بعضهم للاستجواب عدة مرات بهدف التعرف على موقفهم من الأحداث التي كانت تجري في بلدهم الأم.
التقرير التالي يرصد كيفية تفاعل أسرة أمريكية من أصول عراقية مع الحرب وكيف ذرفوا الدموع عند رؤية إخوانهم وأخواتهم في العراق يقفون بلا حول ولا قوة أمام أقوى آلة عسكرية في العالم يمتلكها البلد الذي أصبحوا يحملون جنسيته.
خلال الاحتجاجات ضد الحرب، رفعت غيد بفخر علمها العراقي، متحدية انتقادات مؤيدي الحرب.
عند بداية الحرب، كانت ثلاثة أجيال من النساء يجلسن وقد تحلقن حول جهاز تلفاز في المسكن الصغير ببلدة ديفيس الأمريكية، لم يكن جهاز التلفزيون كبير الحجم، أو بارزا، كان موضوعا في زاوية، بجانب ثلاث أرائك وضعت بشكل شبه دائري على حدود غرفة المعيشة، مثلهن مثل كثيرين، وجدت النسوة في التلفاز جاذبية لا تقاوم.
ظللن يشاهدن ساعات طويلة لا تنقطع، مشدوهات بالتفجيرات، بالحرائق وبالتقدم الثابت لقوات التحالف. لكن بالنسبة لهن، لم تكن الحرب تدور في بلد أجنبي.
من خلال التلفاز، شاهدن بلدهن وهو ينسف بشكل كامل، وتلك تجربة لا يستطيع الكثير من الأمريكيين تصورها.
بعد الأيام الأولي من القصف، نقلت محطة التلفاز العربية، المرة تلو الأخرى المشاهد المأساوية لإثنين من الأشقاء القتلى.
"هذه مشاهد لا تبثها بالطبع CNN أو MSNBC" على نحو ما قالت غيد، وهي شابة صغيرة لم تستطع أن تدير وجهها بعيدا عن الشاشة. (لم ترغب غيد وأسرتها في إيراد أسمائهم بالكامل).
إن الصور التخطيطية للدم الذي يلمع بشكل غير طبيعي، والجروح العميقة في الأصابع المغطاة بالقفازات، والمدنيين العراقيين المنتحبين بحزن وهي تعبر الشاشة في الأمسيات، تصبغ التصورات السابقة لأفراد الأسر حول الحرب وتخيفهم بأمثلة من ما يمكن أن يحدث لأقربائهم في بغداد. مع إنقطاع خطوط الاتصال الهاتفي، لم يعد للأسرة سبيل للحصول على أخبار مباشرة إلا من خلال هذه المشاهد المتلفزة المنقولة من بلد يفتقر للخدمات الطبية، والكهرباء والمياه الصالحة للاستخدام.
علاقة معقدة
وهم ينظرون إلى الدفاعات العراقية وهي تضعف وتنهار، كانت غيد وأفراد أسرتها ينظرون في أمر علاقتهم المعقدة بالوطن الأم، وجاء رد الفعل مختلفا لدى كل واحد منهم على الدمار الذي حل بما خلفه أي منهم وراءه بعد حرب الخليج.
كانت إحدى النساء شديدة الغضب، ونهضت لتحتج بضراوة ضد الحرب، بحثت أخرى عن العزاء والسلوى من خلال الصلاة والدعاء. الفرد الوحيد في الأسرة الذي حاول أن يبعد نفسه عن الحرب الجارية رضخ بتردد لمقابلة مفاجئة مع القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. آي.).
نظر كل فرد في الأسرة للمستقبل بعيون مواطنين عراقيين. قالت رحاب، والدة غيد "يقول العراقيون إنه لم يكن هنالك منتصر" مع انحسار هذه الحرب. وأضافت أنه إلى حين يعثر الأمريكيون على صدام حسين أو يقتلوه، فإنهم لن يكونوا منتصرين في الحرب.
قال عاصف، شقيق غيد، "أنا لا أدري حقيقة ما الذي سيحدث، خير أم شر"، وهو أضاف "في ظل وجود صدام، كان المرء يعرف متى يصمت، ومتى يتكلم .... الآن، أنا لا أعرف ما يمكنني التفكير فيه".
حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها، كانت غيد طالبة جامعية متحمسة ومفعمة بالعواطف، وكانت أكثر أفراد الأسرة انتقادا للسياسة الخارجية الأمريكية.
ذات مساء جلست أمام التلفاز تجاهد للتعبير عن خوفها وغضبها ووجدت نحو عشر طرق للتعبير عن شيء واحد وقالت: "أنا لست سعيدة بشأن ما يحدث"،فيما كانت عيناها تنجذبان باستمرار نحو التلفاز، وهي مضت للقول "إن الأبرياء يموتون، الأطفال والأسر، أولئك الناس أشبه بالمحتضرين... إنه يجعل الأمور أسوأ بكثير... إنهم في حاجة بالفعل لوضع حد لهذه المسألة"
في نهاية الأمر، أضطرت للتسليم، وهي خلصت للقول "أشعر بكوني في حالة مزرية وشنيعة".
التراث العراقي
للتعبير عن فخرها بتراثها العراقي، بدأت غيد في استعراض علمها العراقي الكبير في أنحاء مدينة سكرمنتو خلال الاحتجاجات المناهضة للحرب. رغب عاصف أيضا في أن تنتهي الحرب، غير أنه تجنب الجلوس حول التلفاز، قضى الفتى ذو السبعة عشر عاما معظم وقته في المدرسة، منشغلا بالدراسة أو في التجول مع أصدقائه أو في لعب كرة القدم. حين يعود للبيت، كان عاصف يجلس بجانب التلفاز، لا قبالته، متجاهلا إياه بتعمد، كانت مشاهدة الاتجاه الرئيسي للأخبار الأمريكية تثير غضبه، كما يقول، وكان يمضي لمقارنة هذه الأخبار مع تقارير المحطات الفضائية العربية حول "ما يحدث بالفعل للمواطنين"، لكن بطريقة ما، أحدثت الحرب تأثيرا أكبر في عاصف على المستوى الشخصي مقارنة بغيد. كان هو الوحيد الذي جرى استجوابه بواسطة عناصر القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، لنحو نصف ساعة، حاول كما يقول أن يطمئنهم بأنه ليس مذنبا بنشاط إرهابي وإنه لا هو أو أي من أفراد أسرته يعرفون أين بنى صدام حسين مخابئه السرية.
لا يزال عاصف يشعر بالانزعاج عند التحدث عن هذا الأمر.
الانكشاف والغضب
لئن كانت الحرب قد جعلت عاصف يشعر بالانكشاف وغيد بالغضب، فهي قد جعلت شقيقتهم الصغرى أشد إيمانا. كمؤشر للفخر، بدأت البنت ذات الأربعة عشر عاما في ارتداء الحجاب، غطاء الرأس الذي تستخدمه المسلمات، في البيت، رفعت غسق الحجاب أسود اللون الذي غطى رأسها ورقبتها وجلست القرفصاء على الأريكة، وهي تصدر أصوات حزينة كل مرة تقع فيها عيناها على مشاهد للعنف ضد شعبها.
رحاب، والدة هؤلاء، شاهدت نفس هذه المشاهد وراحت تستذكر هناء العيش قرب أسرتها الممتدة في مدينة بغداد العريقة، كانت تزداد حزنا كلما تقدمت القوات الأمريكية نحو المدينة. بالنسبة لها، لم تكن الحرب فقط تدميرا للأرواح ولكن تدميرا للمدن التي عاشت فيها، والجسور التي تنقلت فوقها وإسلوب من الحياة السهلة والهادئة التي تحن إليه بشدة. بالرغم من هذه الخسائر، ظلت رحاب وفية لكلا البلدين، قالت في صوت خفيض مؤثر "أمريكا هي بلدي... العراق هو بلدي".
بدت والدة رحاب أقل تسامحا، كانت المرأة، بضفيرتها الطويلة رمادية اللون ووشاح رأسها الأبيض، تجلس طوال اليوم أمام المحطات العربية وقد تدلت من أصابعها مسبحة من خرز الفيروز وهي تهمس لنفسها "الله". كانت تشاهد الأخبار باستغراق، مهملة ما يدور حولها من حديث بالعربية أو الإنجليزية، في بعض الأحيان، كانت تومض بابتسامة سلسلة حلوة حين يبلغ مسمعها حديث عن كيف كانت الحياة في العراق. لكن في أغلب الوقت، كانت تكتفي بالمراقبة الصامتة لأطفالها وأحفادها. قالت رحاب "إذا جاء الموت، فهي تحب أن تموت معهم".
حين أصدرت غسق تنهيدة حزينة، جذبت الجدة نفسا عميقا من خلال أسنانها في فحيح، كما لو أنها كانت تصد بعضا من ألم في جسدها.
براءة الطفولة
مع مرور الأيام الطويلة للحرب، كانت أصغر شقيقات رحاب، غيداء، وهي طفلة ساحرة ذات ثلاثة أعوام تتدلى ضفيرتها السوداء فوق وجهها، هي الوحيدة التي لم تنل الحرب من مرحها، كانت تعدو عبر طوابق المنزل في سرعة شديدة، تجرجر دميتها خارج مخابئها وهي تقاطع بانتظام كل محادثة لتشير إلى إحدى صورها وهي تقول بصوت مرح، "هذه أنا أبدو مثل الأميرة!".
لا تعير غيداء انتباها للأخبار في العادة، لكن حين كانت نساء الأسرة يقمن بمشاهدة الأخبار في أحد الأيام المبكرة للحرب، اقتربت غيداء بشدة من الشاشة ونظرت في وجه بنت عراقية صغيرة في مستشفى ببغداد ترقد فوق نقالة بجانب شقيقها، رجعت غيداء لمكانها في وسط الغرفة، ثم سألت شقيقاتها بزهو "هل هي أنا؟" في إشارة للبنت الصغيرة التي ظهرت على شاشة التلفاز.
كانت هناك أشياء قليلة جدا في الشقة السكنية تشير إلى أن هذه الأسرة وافدة من العراق، كانت الكراسي حول طاولة الأكل من طراز أمريكي حديث، فيما كانت الطاولة مغطاة بقماش بلاستيكي أبيض اللون ذي نقط حمراء لحماية الطاولة، في صور الزواج والصور المدرسية، وكانت هناك عبارة مزخرفة مؤطرة من القرآن الكريم صنعت في إتقان بخيط ذهبي على قماش مخملي.
جلست غيد في زيها الرياضي الأسود في أقرب مكان من التلفاز، قالت مجددا باسلوبها اليائس المعتاد، "أطفال وأسر بريئة".
وأضافت "يجب على المرء أن يضع نفسه في مكان الآخر حتى يشعر بما يقع عليه"، تخيلت عماتها وأخوالها وجدها الذي رفض أن يأخذ أسرته ويرحل عن بغداد.
العلم العراقي
خطرت لغيد فكرة حمل العلم العراقي في الشوارع عندما لاحظت العدد الكبير من المحتجين الآخرين يحملون العلم الفلسطيني بفخر، كان بعض المحتجين يضع فوق صدره دبوسا رسم عليه العلم العراقي، لكن هذه الدبابيس بدت لها غير مرئية.
اختارت غيد ما هو أكبر، بيانا أوضح، وقامت بصبغ علمها العراقي فوق ملصق حملته كرمز لفخرها الوطني. إن حقيقة عدم اكتراثها كثيرا بصدام لم يمنعها من عشق ثقافتها، شعبها وبلدها.
حين ذهبت أخيرا لشراء علم عراقي حقيقي، أخبرها البائع إنه لم يستاء من طلبها، ثم قام البائع باستخراج علم سوري لها، كما تقول. اضطرت لأن توضح له أن العلم الذي تريده ذا ثلاثة نجوم، وليس ذا نجمتين.
شاركت غيد في الاحتجاجات بعلمها الجديد كبير الحجم بالرغم من نصيحة الأعضاء الأكبر سنا في جاليتها، الذين أحسوا أنها تفرط في الجرأة. تتذكر غيد أنهم سألوها: "ماذا لو أنهم قاموا بضربك؟" في هذا البلد، كما قالت لهم غيد، يستطيع المرء حماية نفسه، وهي تستطيع أيضا أن تبادلهم الضرب.
قام والد غيد، الذي توفي في عام 2001، بتعليمها أن لا تخجل من نفسها، لقدكانت نصيحته محل احترام غيد.
قالت غيد "أنا لا أخشى أحدا سوى الله".
ابتعد أغلب الناس من غيد حين قامت برفع علمها في عرض للتحدي عبر شوارع وسط مدينة سكرامنتو، أو قابلوها بابتسامات تشجيع، غير أن معظم الناس الذين توقفوا للحديث معها أرادوا فقط أن يسألوا نفس السؤال: "أي علم هذا؟" بدت غيد مندهشة من أن تقوم القوات الأمريكية بقصف بلدها في وقت لا يستطيع فيه المواطنون الأمريكيون معرفة علم هذا البلد، غير أنها لم تمانع في تعليمهم إنها حتى وقفت لالتقاط الصور معهم.
قالت غيد "أحسست برضا داخلي، لا أدري ما سببه".
تتذكر غيد رد فعل سلبي واحداً، جرى أحد الراكضين بجانبها وصاح قائلا إن علمها غبي، تذكر غيد أنها ردت عليه بصوت عالي وهو يبتعد: "لماذا لا ترجع وتقول ذلك في وجهي؟" ثم قامت غيد بمطاردته، قالت بابتسامة خجلى "كان أسرع مني".
قصف متعمد
مع تقدم القوات أكثر داخل العمق العراقي، كان هناك القليل من الاحتجاجات التي يمكن لغيد المشاركة فيها، وهي توقفت من ثم عن التلويح بعلمها، غيرأن غضبها حول ما يحدث كان يزداد عمقا. وهي تجلس في غرفة معيشتها حين اكتسحت الحرب بغداد واتجهت شمالا. أحست غيد أن قصف الأسواق والمستشفيات وفنادق الصحفيين لا بد أنه كان متعمدا.
قالت "يقولون إنها حوادث عرضية! أنا لا أعتقد أنها حوادث على الإطلاق"، لكن في يوم سقوط بغداد، وحين أظهرت الأخبار الأمريكية عراقيين فرحى، انصرف اهتمام غيد بعيدا عن الحرب والإصابات بين المدنيين.
قالت غيد وهي ترى الفرح والضحك يغمر عراقيين كلما حدقت فيهم على الشاشة: "إنهم أغبياء للغاية"، قالت:"لا تربية أو معرفة، ولا تفكير، سوف يريكم الله في النهاية".
النهب والسرقة
بينما كان الأمريكيون يعتادون على مسألة سقوط بغداد، كانت غيد بالفعل قد تحولت للقصة الكبيرة القادمة. لقد أصابها بالصدمة والخزي المواطنون العراقيون الذين ينهبون المباني الحكومية. تساءلت في شك: "أيسرقون الكراسي؟
"سخرت غيد أيضا من المشاهد التي صورت حول العالم لعراقيين ينهالون بالضرب على وجوه تماثيل صدام حسين بالأحذية.
قالت، وهي في ريبة من الكيفية التي سيترجم بها الأمريكيون هذه المشاهد، "أعرف ما الذي سيعتقده الناس هنا حول العراقيين".
وأضافت "إن هذا هو ما سيركزون عليه... الأقبح والأكثر شرا".
كان لدى الشقيقة الأصغر غسق رؤية مختلفة، قالت إن صدام سوف يعثر على هؤلاء الناس، مدعية أنه يقوم بمراقبة كل شيء وكتابة ملاحظات حول من تجب معاقبتهم.
كان مرجع إشمئزاز غيد من الصور التي يرسمها الإعلام لأبناء وطنها يعود جزئيا إلى اعتزازها، إنها كانت قد بدأت في التفكير في الرجوع للعراق. حين تتحدث في هذا الأمر، كانت تلوح فيها صورة المراهقة الشجاعة. الخجولة لحد ما.
في الأيام الأولى للحرب قالت: "أريد أن أعود إلى بلدي. أريد أن أزوره إذ إنني كلما نظرت إليه أشعر بأن شيئا ما ينقصني".
العودة للوطن
حين اقتربت الحرب من نهايتها، بدأ حلمها بالزيارة يكبر في ذهنها ويبدو مثل عودة دائمة للوطن، كان الأمر كما لو أن الحرب كانت تحول بينها وبين شيء نسيت أن تعطيه حق قدره، وهي لا تستطيع الآن أن تنتظر أكثر لاسترداد هذا الشيء.
قالت إنها ستمضي ستة أشهر على الأقل في زيارتها للوطن، غير أنها بدت مترددة. قالت "إذا أحببته، فربما لن أعود منه".
تعتقد غيد أن شجاعتها واعتزازها الوطني هما هبتان من والدها، الذي توفي في مستشفى في ديفيس من مضاعفات إثر عملية جراحية لتصحيح إنقطاع في النوم باعتباره رب العائلة، كان والد غيد يتعهد بكافة مقتضيات الأسرة المالية وكل القرارات الكبيرة. كان هو الذي جاء بهم للولايات المتحدة في عام 1993 كطالبي لجوء سياسي. لقد أصبح هو ورحاب مواطنين أمريكيين، إلا أن غيد وغسق وعاصف لم تنته إجراءاتهم بعد.
على الرغم من قول رحاب إنها لا تعرف بدقة لماذا اختار زوجها، الذي أشارت إليه كصحفي ودبلوماسي بوزارة الإعلام العراقية، المجيء بها إلى كاليفورنيا.إلا أنها تعتقد أن ما حدا به لفعل ذلك هو نوعية الحياة والتعليم هنا. إنه لم يكن عضوا في أي حزب سياسي في العراق، كما أفادت، غير أنه عمل من أجل فائدة بلده.
تذكر عاصف أن والده سافر إلى سفارات عديدة حول العالم، رغم أن عاصف كان أصغر سنا من أن يتذكر التفاصيل، فهو تذكر لاحقا أن والده لم يؤيد صدام وأن الأسرة لم يكن مسموحا لها بمغادرة العراق وأنها أضطرت لرشوة بعض الناس للخروج.
لو كان والد عاصف لا يزال على قيد الحياة، فمن المرجح أن عاصف ما كان ليخضع لتحقيق بواسطة القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي.
مقابلات طوعية
تم تحذير قادة المسلمين بأن المقابلات "الطوعية" ستجرى مع نحو 120 عراقيا وعراقيةأمريكيا في وحول "سنترال فالي". كانت هذه المقابلات بهدف جمع معلومات فقط ولبناء صلات، على نحو ما جرى إبلاغ القادة: لا أحد يتعين عليه أن يقلق.
لكن عاصف المراهق أصابه القلق حين ظهر إثنان من العملاء الفيدراليين عصر أحد الأيام، أثناء وجوده في البيت لوحده، وطلبا الحديث مع والده الراحل.
يتذكر عاصف أنه قال لهم "ما الذي تتحدثون عنه؟" وهو لم يسمح لهم بدخول البيت، ثم طلب العميلان أن يتحدثا مع شخص آخر من الأسرة، مع جدته، التي كانت لا تزال في العراق.
كان الرجلان يحملان ملف معلومات سميك كما يقول عاصف ضم وثائق من مصلحة الهجرة والجنسية، كان الرجل الذي يرتدي لباسا أسود في نحو الخمسينيات من العمر، حسب اعتقاد عاصف وكان برفقته سيدة قصيرة من أصول آسيوية. بدت "السيدة الصغيرة" متعاطفة حين قال عاصف إن بعض أفراد أسرته في بغداد. يقول عاصف "لم يبد على الرجل أي إكتراث".
حين سأل العميلان عاصف ما إن سيجيبهما عن بضعة أسئلة، أخبرهما بأنه سيتأخر عن عمله. قال عاصف: "كنت أحاول أن أحملهما على الإنصراف"، غير أنهما بقيا.
تذكر عاصف بعضا من الأسئلة المعينة التي وجهت إليه، وهو قام بصياغة أسئلة أخرى بمفرداته. قال إن العميلان سألاه عن هويته، ما إن كان متورطا في أية هجمات إرهابية وما إن كان قد خطط للمشاركة في أي منها في المستقبل.
تساءلا عن ما فكر فيه بشأن الحرب في العراق، وما إن كان قد تحدث مؤخرا مع أقاربه العراقيين، أجابهم عاصف بالإيجاب، فسأله العميلان ما إن كان أقاربه يعرفون أين يقيم صدام حسين في مخابئه السرية تحت الأرض. اعتقد عاصف أن العميلين يريدان منه أن يسأل أقاربه متى تحدث إليهم مرة أخرى.
سخر عاصف لاحقا مما تذكره، بينما كان يتناول طعاما خفيفا مع شقيقته بأحد المطاعم التركية، قال بتجهم إن الضباط الفيدراليين تصرفوا معه كما لو مذنبا بجرم، وهو سخر أيضا من فكرة أن المقابلة كانت "طوعية" كما لو كان أي شخص يستطيع المخاطرة بالرفض.
يتذكر عاصف أنه قال لهم "أنا لست إرهابيا". وهو يتذكر أن واحدا من العميلين قد أجابه قائلا "نحن لا نصفك بأنك إرهابي". زعم العميلان أنهما يجريان معه مجرد حديث. حين تكلم عن اللقاء، لمس عاصف شفتيه بحزن، وكان صوته منخفضا وبطيئا، كان يرفع صوته فقط عندما يريد إغاظة شقيقاته. قال لهن بشكل معوج "أتمنى بالتأكيد أن لا تكون لديهم معسكرات اعتقال". ردت الفتيات بضحك.
بعد المقابلة، اشتبه عاصف في أن يكون هاتف الأسرة والإنترنت قد جرى وضعهما تحت المراقبة، لقد تباطأ الاتصال في الإنترنت الخاص بهم بصورة مزعجة، وكان يتم قبلا في وضوح شديد، وليس بشكل مشوش وبترديد صدى كما في العادة. قال عاصف إنه لاحظ هذه التغييرات بعد مقابلة فريق مكافحة الإرهاب مباشرة".
قد لا يكون ذلك حتى مجافيا للقانون"، قالها عاصف بجدية، مفترضا أن القانون الوطني قد جرد أسرته من حقها في الخصوصية.
لم يرغب نيك روسي، مسؤول العلاقات العامة لفرع مكتب التحقيقات الفيدرالي، في التعليق بشكل خاص حول المقابلة التي أجريت مع عاصف، غير أنه قال بأن العملاء الذين قاموا بزيارة العراقيين الأمريكيين المحليين عملوا من أجل بناء صلات قوية مع الجالية. كانت لديهم ثلاثة أهداف: جمع معلومات حول أي تهديد إرهابي محلي، التعلم عن الأوضاع على الأرض في العراق وطمأنة الناس بشكل شخصي بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي سيقوم بالتحقيق في أيه جرائم كراهية وحمايتهم.
فيما يتعلق بالتغيير الذي أصاب خدمة الإنترنت والهاتف، قال روسي، إن الأمر ربما كان مصادفة، لا أحد من الذين قاموا بإجراء المقابلات كان يجمع معلومات يمكن أن تؤدي لإستصدار أوامر قضائية بمراقبة إضافية. وهو أضاف أن الحصول على مثل هذه الأوامر بالغ الصعوبة.
وقال روسي بنوع من الفكاهة: بجانب ذلك، إذا كان شخصا ما تحت المراقبة فهو لن يلحظ على الإطلاق تغييرات يمكن أن تثير انتباهه.
كان ضيق عاصف مفهوما، إنه يتذكر حرب الخليج بشكل أفضل من شقيقاته، فهو يذكر أنه تجمع مع أسرته في أحد أركان بيت جده أثناء الليلة الأولى من القصف.
يتذكر أن جده كان يسافر خارج بغداد لمدينة أخرى ليعود بالمياه. إنه يذكر الزيارات التي كانوا يقومون بها كل صباح لتفقد الأماكن التي جرى قصفها في الليلة السابقة. وهو يذكر أيضا الرحلة الطويلة عبر الأردن، تايلاند، ماليزيا، ودول أخرى، وهي الرحلة التي انتهت بهم إلى خليج بيى في كاليفورنيا. انتقلت الأسرة إلى بلدة ديفيس كما يقول عاصف عندما أصبح أبواه في قلق من شأن عنف العصابات، المخدرات في المحيط الذي استأجرت فيه الأسرة شقتها السكنية الأولى في شرق بالو التو.
صعوبة الحياة
قال عاصف: "إنني انتقل من حرب إلى أخرى".
تأهلت الأسرة لنيل أحد المساكن معتدلة الايجار في ديفيس، كما يقول عاصف، حتى بالرغم من أن والدته تعمل في تدريس اللغة الفرنسية، وأنه وشقيقته ذات الأربعة عشر عاما غسق يعملان أيضا، فما تزال مقابلة احتياجاتهم أمرا شاقا، لاسيما حينما لا يكون هناك أب.
لم يكن أي من عاصف أو غيد يرتديان لباسا أو رمزا يشير إلى أنهما عراقيان عدا بعض الأحيان التي تستعرض فيها غيد علمها، ذهب عاصف للقول بأن حتى حين تستوقفه شرطة ديفيس، فإنها تحسبه من أمريكا اللاتينية. في المقابل، اختارت غسق أن ترتدي ما يشير إلى الاحتشام الإسلامي.
الزي الإسلامي
بدأت غسق في ارتداء الحجاب قبل شهرين من إنطلاق الحرب، تساءل زميلات صفها الدراسي ما إن كانت والدتها هي التي جعلتها ترتدي الحجاب، غير أن غسق كانت ترغب في التعريف بنفسها كمسلمة، ليس فقط عند أولئك الذين تذهب معهم للمدرسة بل وأيضا كل من يراها. تماما كما هو العلم بالنسبة لغيد، فإن ارتداء الحجاب كان بالنسبة لغسق رمز اعتزازها بهويتها كعراقية أمريكية ومسلمة.
نفس الدفعة الدينية حملت غسق للمشاركة في فصل جديد من الفصول التي نظمتها رابطة الطلاب المسلمين بالمدرسة، التقت غسق و35 عضوا آخر أثناء استراحة الغذاء وأملن في تركيب مكبر صوت في الساحة المدرسية كيما يستطيع الطلاب التعبير عن ما يجول داخلهم.
حين تجلس الأسرة لمتابعة الأخبار على شاشة التلفاز، كانت غسق أول من يلحظ المشاهد الجديدة من الموت والإصابة. حتى حينما تكون منشغلة بأداء واجباتها المنزلية، فإنها تجلس في نفس الغرفة مع التلفزيون.
قالت غسق بعد بداية الحرب: "قبل الحرب، كان نحو 10 ملايين طفل يعاني بالفعل من الجوع"، كانت أرقامها مبالغة مقارنة مع العدد الحقيقي للأطفال العراقيين الذين يعانون من الجوع.
أضافت بتشكك، كما لو أن المنطق فارقها، "الآن، يريد بوش أن يأتي ويقصفهم؟ أقصد، أنه يجعل الأمور أسوأ".
مثلها مثل شقيقتها الكبرى، لا تخاف غسق من مواجهة أولئك الذين لا يتعاطفون مع العراق، كان معظم الذين تعرفهم من المعارضين للحرب، لكن بعد استماعها لبعض زملائها اللاتي يؤيدن الحرب، لم تتردد في مجادلتهم.
قالوا لها إن لدى صدام حسين قدرات نووية، سألتهم، لماذا لم يجد المفتشين أي شيء؟ قالوا لها إنه يقتل في أبناء شعبه، أجابت: الآن يأتي بوش ويقتل المزيد منهم، دون أن يدرك أن ذلك لا يحقق تقدما. قالوا إنه تعين عليهم بعد هجوم 11 سبتمبر أن يحموا بلدهم. أبدت غسق التعاطف معهم، وقالت إن مسلمين أيضا قتلوا في الهجوم، غير أن 11 سبتمبر لم يكن شيئا مقارنة مع ما عانته بعض الدول، وفي بعض الأحيان على أيدي الأمريكيين.
كانت المعلمة البديلة التي تقوم بتدريس غسق متعاطفة ومشجعة لها، قالت المعلمة لتلاميذ الصف إنها شاركت في مسيرة احتجاج ضد الحرب خلال عطلة نهاية الاسبوع، وإنها شاهدت بعض زملائها يعتقلون، كما كان إنتماء غسق العرقي ودينها موضع اهتمام من المعلمين الآخرين في المدرسة، سألها أحدهم عن أحوال أسرتها، مشيرا إلى أنه تلقى رسالة بالبريد الإلكتروني تقول إن غسق من العراق.
فتحت غسق، التي كانت تجلس على الأريكة بين واجباتها المدرسية، ذراعيها وتركتهما تسقطان فوق ركبتيها وهي تقول "إذا يبدو أن كل المعلمين يتلقون بريدا إلكترونيا يتناول سيرتي؟
"لم يكن المعلمون والمعلمات هم وحدهم الذين قاموا بالتضامن مع غسق، إن ولاءها المتنامي للإسلام قد ساعدها أيضا في الحصول على وظيفة، تقول غسق إنها عندما تقدمت بطلب للإلتحاق بوظيفة في محل للفطائر، قيل لها أثناء المعاينة إن رؤية شخص يحترم دينه لهو أمر عظيم.
حصلت غسق على الوظيفة، مع الحجاب.
إن ارتداء غطاء الرأس أمام كل الرجال الذين ليسوا من أفراد أسرتها لهو أمر جديد بالنسبة لغسق. ذات مرة حين ظهر مدرب عاصف في فريق كرة القدم أمام باب الأسرة، هرعت غسق على الفور أعلى الدرج حيث قامت بتغطية شعرها الأسود اللامع بقلنسوة سوداء، لقد بدت عيناها الإرجوانيتان، أكثر بريقا وألقا.
قامت رحاب على عجل بوضع الوشاح فوقها، وكانت تمسك به قبلا في يدها، نشرته فوق وجهها أولا ثم على شعرها الأسود، وأخيرا لفته بسرعة حول رقبتها ثم قامت بربط عقدة أسفل ذقنها.بعدئذ تم السماح لمدرب عاصف بالدخول إلى غرفة المعيشة المكتظة بأسرة متواضعة من الشرق أوسطيين المسلمين بدت قبل لحظات كأسرة لا يميزها شيء عن أية أسرة أمريكية أخرى.
رغم أن كل أبناء وبنات رحاب ذكروا في المقابلات أنهم سعداء بوجودهم في أمريكا وأنهم يحمدون الله على كل ما لديهم، فإن رحاب كانت الوحيدة التي بدت مشاعرها أقرب إلى القلب. قالت إن جيرانها متعاطفون معهم، وأن أصدقائها في المسجد أعانوا في دفن زوجها، وأنها أنشأت صداقات عديدة بين المشاركين في الجامعة.
لكن بعد أسابيع قليلة من الحرب، فقدت رحاب قدرا كبيرا من تفاؤلها العام.
في بعض الأيام، كانت تبدو جد حزينة وغير راغبة في الحديث حتى عن الحرب.
"إنها دمرت تماما تقريبا"، قالتها رحاب ذات مساء بينما كانت تشاهد صورا من البصرة تحت الحرائق. راجعت عبارتها. قالت "ليس تقريبا، أعتقد أنها دمرت بالكامل".
أضافت غيد "ربما جرى تدمير نحو 96 في المائة منها".
كان خمسة من أشقاء رحاب لا يزالون في العراق، إضافة إلى أزواجهم أو زوجاتهم، إذ أنهم رفضوا مغادرة العاصمة، حسب قول والدة زوجها المتوفي، والتي اتصلت بهم هاتفيا في ديفيس بعد ثلاثة أيام من بدء الحرب.
قالت رحاب "إنها اتصلت، وتساءلت لماذا لم نقم بالاتصال بها".
رحاب، المرأة الهادئة ذات الإسلوب المثقف الرائع، أغمضت عينيها وهزت رأسها برفق، وقالت "لم أتصل ببغداد، حتى لا أسمع أخبارا سيئة".
مع اقتراب الحرب من العاصمة، إعترفت رحاب بأنها أيضا رغبت في العودة للعراق. إنها تحن لاحتفالات الأسرة الكبيرة وولائمها.
قالت غيد، مسرورة بذكريات والدتها، "إن كل شخص يعرف عنك شيئا ما"
قالت رحاب، أثناء وقت تناول الشاي، تعودت البنات على ممارسة لعبة الريشة (بادمنتون) معا، وذلك بعد تناول الشاي والفطائر المحشوة بالتمر. في هذه الأثناء كانت النسوة يجتمعن للتسامر، ويلتقي الرجال ببعضهم في الشارع، بعيداعن الحدائق الخاصة المشتركة مع عدد من بيوت الأسر المحيطة، ثم عند الغروب.
يقوم رب الأسرة باستدعاء الجميع للجلوس معا إلى وقت متأخر من الليل، عند التاسعة أو العاشرة مساء تقوم الأسر بتناول طعام العشاء معا، وحين يكون الجو حارا في الخارج، فإنهم يقومون بالنوم على سطح بيوتهم في بغداد.
قالت رحاب إن الحال مختلف الآن، بعد حرب الخليج الأولى أصبح الناس أكثر خوفا وعزلة، لكن في السابق كان هناك "الكثير من الحب والالتقاء".
لاستعادة بعض عاداتهم القديمة، حين انتقلوا إلى ديفيس، قامت رحاب بزرع بعض النعناع والطماطم فوق سقف صغير جدا وراء شقتهم السكنية. في كل عصر، كانت تواظب على إعداد الشاي لوالدتها في أكواب صغيرة رقيقة مطلية بلون ذهبي.
استعادت إلى ذاكرتها المنتجات الزراعية الطازجة التي كان يجيء بها الباعة إلى مدينتها كيما تشتري الأسر الموسرة حاجياتها عند أبواب منازلها.
قبل الحرب، كان بائع الحليب يجر مركبته عبر المدينة صباح كل يوم.
أشارت رحاب إلى أن بلدها، وبصفة خاصة مدينة البصرة، كان غنيا، جزئيا بسبب حقول النفط وجزئيا بسبب البحر المجاور. قالت غيد "في كل بيت هناك نحو أربعة أشجار نخيل"،.
كمثال على الفنون التزيينية في بلدها، قامت رحاب بعرض ألبسة خفيفة الوزن ورقيقة ترتديها الفتيات في الاحتفالات. إنها مطرزة بالذهب، ومزخرفة بشكل معقد، وفي حالة جيدة جدا. ظل أحد هذه الألبسة لدى الأسرة طوال 34 عاما.
استقبلت رحاب أول الأخبار عن أسرتها بعد إنتهاء الحرب، اتصل بهم صحفي من معارف زوجها ليقول لها إن أقارب زوجها بخير. لا تزال الأسرة في انتظار معرفة أخبار أقارب رحاب وأفراد أسرهم.
ربما تكون والدة رحاب هي الأكثر تأثرا بالخراب الذي أصاب العراق، إنها جاءت إلى الولايات المتحدة لزيارة ابنتها، ثم أصبحت رهينة هنا، تشاهد بلدها وهو يحترق وينهار بالقنابل والصواريخ، بينما يسرق التاريخ القديم لبلدها من المتاحف.
توقعت المرأة العجوز أن تعود لبلدها هذا الشتاء لأبنائها وبناتها، وأحفادها وجيرانها الذين تفتقدهم، غير أن رحاب رفضت عودتها.
قالت رحاب إنها قامت بإخفاء جواز سفر والدتها، لن تقوى العجوز على العدو متى سقطت القنابل حولها، كما تقول رحاب، كما أنه لا توجد هناك خدمات طبية.
إنها جاءت إلى الولايات المتحدة بحقيبة ممتلئة بأدوية انتهت صلاحيتها، مع تفشي أعمال النهب، بما في ذلك نهب المستشفيات، من يدري ما آل إليه حال العلاج الطبي هناك بعد إندلاع الحرب؟
رفعت رحاب أصبعها لتتحدث، كما لو أنها في جلسة نقاش، "لدينا الغذاء في العراق، لكني أعترف بأنه لا يوجد لدينا علاج طبي كاف" كشفت عن ابتسامة حزينة.
بدت جدة غيد كما لو أنها تعي لب هذه الحوارات، ذات مرة، قامت برفع يدها وبدأت تطرق به بلطف وتكرار على صدرها. إذ فعلت ذلك، انتابها شهيق، رغم أنها واصلت الابتسام.
بدأ على أفراد الأسرة التأثر بذلك، وبادلوها ابتسامة دافئة، هرعت شقيقة غيد الصغرى، ذات الأعوام الثلاثة والعينين اللامعتين، نحو الجدة وجلست بجانبها، اتجهت غسق للجلوس على الجانب الآخر، وقامت كلتاهما باحتضان الجدة والتحدث إليها بود بينما كانتا تقومان بمسح عينيها بمنديل أبيض.
انطلقت البنت الصغيرة ذات الأعوام الثلاثة لتعود بعد برهة بأنبوب دهان مسحت بعض منه فوق جدتها، حسبت الطفلة أن ما يؤلم الجدة سينجلي، أنى كان، مع المرهم.
نظرت رحاب إليهم وحاولت أن تفسر دموع والدتها. قالت رحاب "إنها تقول: جسدي هنا، وروحي هناك".
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|