لكل دولة من دول العالم تقريباً رمز أثري أو تاريخي ترتبط به ويرتبط بها. وفي هذه الحالة يصبح الحفاظ على هذا الرمز وحمايته مهمة قومية بالفعل.
ولعل سور الصين العظيم هو ذلك الرمز الذي يرتبط بصورة الصين لدى مئات الملايين من شعوب العالم. ولكن يبدو أن التطور المذهل الذي تشهده الصين حالياً على كافة الأصعدة، وخصوصاً المجالين الاقتصادي والعالمي، قلَّل من الاهتمام بهذا الأثر العظيم.
وقد نشرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية تقريراً عن سور الصين العظيم وجهود إعادته إلى مكانته العظيمة.
تقول الصحيفة: من المؤكد أن الحالة التي وصل إليها سور الصين العظيم الآن هي حالة مؤسفة بشدة إذا ما نظرنا إليه باعتباره رمزاً وطنياً ارتبط بصورة الصين في الخارج. ومن الواضح أن هذا الأثر العظيم يعاني بشدة من التأثير السلبي لكل من البشر والزمن. ولكن يبدو أن الحكومة الصينية تنبَّهت لهذه الحقائق أخيراً فقررت ولأول مرة وضع قواعد تحكم البناء في المناطق المحيط بالسور من أجل حمايته والحفاظ عليه كقيمة أثرية وتاريخية عظمى.
ومع أول ديسمبر 2006م أصبحت إزالة أي أحجار من السور أو عمل فتحات فيه لمرور السيارات أو لإقامة الاحتفالات الصاخبة عليه أو إقامة مبانٍ سكنية مرتفعة قريبة منه أو غير ذلك من الأنشطة أو الأعمال التي يمكن أن تلحق أيّ ضرر بالأثر الصيني العظيم أعمالاً غير قانونية.
وربما يتساءل المرء: هل فعلاً مثل هذه الأنشطة لم تكن محظورة من قبل، وبخاصة أن سور الصين العظيم مسجَّل ضمن قائمة التراث الإنساني الذي يجب حمايته في منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (يونسكو) منذ 1987م؟!
ولكن على امتداد هذا السور الطويل ونظراً لأنه يتمدَّد كالثعبان بين التلال والقمم شمال الصين فإنه لم يكن يتمتع سوى بحماية شكلية فعلاً. والحقيقة أنه لا يوجد بالفعل (سور عظيم) واحد، وإنما تشكل هذا الجدار العملاق على مراحل عديدة؛ حيث كان يتم بناء هذه الأسوار لحماية البلاد من غزو الأعداء، وبعض هذه الجدران لم تكن أسواراً على الإطلاق، وإنما كانت مجرد أكوام من الركام والتراب أو حتى من خنادق محفورة في الأرض. ولذلك فما زال الجدل قائماً حتى اليوم من أجل الوصول إلى تعريف محدَّد ل(سور الصين العظيم) على حدّ قول لو شو مؤرِّخ العمارة في جامعة تسينج هوا الذي يقول: إن بعض أجزاء من هذا الجدار تمثل ثروة قومية، ولكنها غالباً لا تحظى باهتمام أحد. ويقول دوند ياهوي نائب رئيس جمعية السور العظيم، وهي منظمة تهدف إلى توفير الاهتمام بالسور: (الأبحاث الخاصة بالسور العظيم في حالة من الفوضى... فالحكومة ما زالت لا تعرف حتى الآن الطول الحقيقي للسور الذي أقامته إمبراطورية مينج القديمة وحالته الحقيقية وطول الأجزاء المهدمة منه، ولا يوجد سجل مركزي لتاريخ السور). وبعد انهيار إمبراطورية مينج الصينية القديمة عام 1644م، وهي الإمبراطورية التي أقام ملوكها الجزء الأكبر من السور كمجموعة من الأسوار الحجرية المزودة بأبراج مراقبة لحماية حدود الإمبراطورية، وقع السور ضحيةً للإهمال؛ فقد جاء حكام الصين الجدد بعد انهيار إمبراطورية مينج من إحدى قبائل الشمال التي أقيم السور تحديداً لمواجهتها؛ لذلك لم يشعروا بالحاجة إلى الحفاظ عليه.
وخلال القرن العشرين أُجريت بعض الدراسات العارضة عن السور، كما جرت عمليات إصلاح من دون تخطيط، وبالتالي فإن هذه الجهود لم تصمد أمام عمليات التخريب المستمر التي يتعرض لها حتى اليوم. فقد أذاعت وكالة (رويترز) للأنباء قبل بضعة أسابيع تقريراً عن اعتقال ثلاثة عمال من إقليم منغوليا الداخلية بعد ضبطهم يقومون بهدم أجزاء من السور لاستخدام أحجاره في إقامة أحد مشروعات البناء بالمنطقة. ويقول زعيم إحدى القرى القريبة من الجدار في إقليم منغوليا الداخلية عن السور: (إنه كومة من الركام). ولكن وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) ذكرت أنه بعد أن دخل القانون الجديد حيِّز التنفيذ ابتداءً من ديسمبر الماضي فإن من سيتم ضبطه يقوم بأعمال تخريب أو إزالة لأحجار السور سوف يدفع غرامة تصل إلى 26.5 ألف دولار.
ويحذِّر المؤرخون من اتجاه الحكومة إلى تحويل بعض مناطق السور إلى مشروعات سياحية، على أساس أن مثل هذه الخطوة غير كافية على الإطلاق لحماية السور من الدمار كما يقول المسؤولون في الحكومة. في الوقت نفسه فإن أعمال التجديد التي تمت في بعض المناطق مثل منطقة بادالنج، أحد أهم الأجزاء السياحية في السور والقريبة من العاصمة بكين، تبدو بعد أعمال الترميم التي تمت فيها عام 1984م كما لو كانت أقيمت أمس، وهو ما يخلُّ بقيمته التاريخية، ولكن هذا غير كافٍ على حدِّ قول البروفيسور لو الذي يؤكِّد أن التحرك الأخير وحده هو التحرك الذي ينطوي على أهمية كبيرة؛ لأنه جاء بمثابة قانون يعترف بالقيمة الاستثنائية للسور ككل. ويضيف أن المشكلة الحقيقية التي تواجه خبراء الآثار والترميم في الصين هي أن أغلب الصينيين يرون أن الشيء الجيد هو ذلك الشيء الذي يبدو جديداً ولا يعطيهم إحساساً بالتاريخ، وهو ما يفسِّر عدم اهتمام الصيني العادي بمشاهدة سور الصين العظيم. ويقول لو: إن الثقافة الشعبية الصينية لا تعطي أهمية كبيرة للآثار بشكل عام.
فإذا كان الأوروبيون ينظرون إلى الكاتدرائيات والكنائس القديمة باعتبارها آثاراً تاريخية مهمة فإن الصينيين لا ينظرون إلى المعابد القديمة أكثر مما ينظرون إلى ملابسهم التي يغيِّرونها باستمرار. ولذلك فالصينيون ليس لديهم تقليد حماية المباني القديمة أو الاحتفاظ بها.
ووفقاً للقانون الجديد فإن الحكومات المحلية في الأقاليم الصينية ستظل مسؤولة عن حماية السور العظيم، ولكنها للمرة الأولى ستكون مُلزَمة بتنفيذ توجيهات الحكومة المركزية بشأن ما يمكن وما لا يمكن عمله في السور.
يقول دونج: إن هذه أول مرة تبدي فيها الحكومة اهتماماً واضحاً بالسور ككل وبتوفير الحماية له. وعلى رغم ذلك فإن دونج أعرب عن شكوكه في حجم الحماية التي يمكن أن يوفرها القانون الجديد للسور في ظل عجز الحكومة المركزية في بكين عن مراقبة ما يحدث للسور في الأقاليم البعيدة. وطالب دونج بضرورة وضع نظام كامل من أجل توفير الحماية لهذا الأثر الإنساني العظيم، وتساءل: هل تم توفير الميزانيات الكافية للحكومات المحلية لحماية السور؟ وهل القانون الجديد واضح ومحدَّد بما يكفي لتوفير الحماية المطلوبة؟ وقال: إنه من دون الإجابة عن مثل هذه الأسئلة يظلّ مصير البناء الوحيد على الأرض الذي قيل إن رواد الفضاء رأوه من فوق سطح القمر في مهبّ الريح.