|
حديث المجالس |
في كل مجلس يجمع نفراً منا..
أو مناسبة يلتئم بعضنا حولها..
يتجاذب الجميع الحديث في مواضيع شتّى وكثيرة..
وفي مناقشات عفوية لا تحكمها قيود أو ضوابط..
بحيث يطرح كلٌّ وجهة نظره حول ما يثار من قضايا..
ويقول بما يراه وفقاً لمعايشته أو تخصّصه أو قناعاته.
***
وما من مجلس تحول إلى حلقة نقاش..
أو منتدى ساده جو الحوار الحر..
إلاّ وكان ثريّاً بالأفكار والطروحات التي تشغل الناس..
إلاّ وكان منبراً يمكن استخلاص الكثير من النتائج عن توجهات الناس..
إنه بذلك يمثل نبض المجتمع.
***
وفي مثل هذه المناسبات..
التي يأتي النقاش فيها دون سابق إعداد..
ومن غير أن تحكمه ضوابط أو تُحد فيه حرية الكلمة..
يكون فيها من الآراء ما يفيد وما لا يفيد..
بعضها يمكن أن يؤسس عليه خطوات مستقبلية جيدة..
وقد يكون ما يقال فيها لا معنى له ولا قيمة، ومآله ينبغي أن يكون الإهمال.
***
أردت بهذا أن أقول شيئاً عن وضع قائم..
أن أتحدث عن حالة يعرفها الجميع..
وأن تكون كلمتي عن مجتمع منفتح على الحوار..
وعن مواطن اعتاد على الكلام والسماع..
وأحياناً بحماس يصل إلى حد الانفعال..
وفي أحايين أخرى يكون الأمر غير ذلك.
***
لكن السؤال، متى نستفيد من هذه الحوارات..
متى نحوّلها إلى برنامج عمل نؤسس عليه خطواتنا القادمة..
إنها مداولات ومناقشات وأخذ وعطاء بين مواطنين تهمهم مصلحة بلدهم..
وما يميزها أنها تتسم بالشفافية وعدم المجاملة والبوح بشكل تلقائي بما يفكر فيه المرء وما يراه أو يقترحه في تعليقات ومداخلات يكون فيها خير كثير.
***
أسوأ ما في أجواء هذه المناقشات..
أسلوب المقاطعة أحياناً..
والمداخلات غير المنضبطة في بعض الأحيان..
ثم اختفاء صدى ما يدور في هذه الجلسات بانفضاض الحضور على أمل أن يعودوا إلى الحوار في مناسبات قادمة.
خالد المالك
|
|
|
القصة الكاملة لمعركة بعقوبة * إعداد أشرف البربري |
** قائد القوة الأمريكية:
المقاتلون العراقيون مدربون
على أعلى مستوى
**ا لأمريكيون استخدموا كل أسلحتهم
في المعركة التي استمرت يوماً كاملاً
** قائد القوة الأمريكية:
المقاتلون العراقيون مدربون
على أعلى مستوى
**ا لأمريكيون استخدموا كل أسلحتهم
في المعركة التي استمرت يوماً كاملاً
**
على سطح مبنى مهجور مكون من أربعة طوابق وقف الجندي الأمريكي الذي يحمل درجة عريف أومار توريس يراقب شارع القنال عبر منظار بندقيته إم4.
هذا الشارع عبارة عن طريق ممتد إلى جوار قناة مائية تخترق تلك المدينة المضطربة.
وكانت الساعة الثانية صباح يوم الرابع والعشرين من يونيو الماضي. في ذلك الوقت كان فريق القناصة الذي يقوده العريف توريس يبحثون عن عناصر المقاومة العراقية الذين يزرعون الألغام في هذا الطريق ويواصلون هجماتهم على القوات الأمريكية في مدينة بعقوبة العراقية.
وعلى بعد حوالي 500 متر رصد فريق المراقبة والقناصة الأمريكي رجلين مسلحين ببنادق معلقة على ظهريهما ويحملان في أيديهما صندوقاً وقد اتخذا مكانهما على الطريق يحفران من أجل زرع لغم جديد في الطريق.
وجه القناصة الأمريكيون طلقاتهم مباشرة إلى الرجلين حيث أصابوا أحدهما وتمكن الآخر من الفرار.
في ذلك الوقت لم يكن لدى توريس أي فكرة عن الهجوم الكبير الذي سيقع في هذا اليوم ضد القوات الأمريكية في تلك المدينة.
لم يكن في إمكانية العريف الأمريكي معرفة أن الرجلين كانا ضمن مجموعة كبيرة من المقاومين العراقيين الذين كانوا يعدون لواحدة من أكثر هجمات المقاومة العراقية ضد القوات الأمريكية والقوات الحكومية العراقية الموالية لها تعقيدا منذ بدء الاحتلال.
شوكة في خصر الاحتلال
يقول آن سكوت تايسون مراسل صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) في تقرير بعث به من مدينة بعقوبة: (الحقيقة أن مدينة بعقوبة تعد أقرب ما تكون إلى خط الجبهة الأول في حرب العصابات التي تشنها المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال الأمريكي.
يبلغ عدد سكان بعقوبة 292 ألف نسمة وهي معقل للمقاومة ومحطة إمداد وتموين رئيسية لهم. وينطلق منها المقاومون إلى العاصمة بغداد على بعد 35 ميلا منها وإلى غيرها من المدن العراقية.
وهي تقع على بعد 60 ميلاً مع الحدود العراقية الإيرانية وعلى الحد الغربي للمثلث السني على نهر دجلة).
الموالين لأبي مصعب الزرقاوي قائد المقاتلين الموالين لتنظيم القاعدة والذين يقدر عددهم بحوالي ألف مقاتل، وبين المقاتلين العراقيين الذين يقودهم ضباط الجيش العراقي السابق وزعماء حزب البعث المنحل وزعماء بعض العشائر).
ويؤكد القادة الأمريكيون أن نتائج هذا الهجوم بالنسبة للمهاجمين كانت سلبية للغاية حيث أسفر عن مقتل الكثير من عناصر المقاومة ووقوع انشقاقات بين قادة المقاومة المحلية وبين شبكة الزرقاوي التي نسبت هذه الهجمات إلى نفسها.
في الوقت نفسه فإن معركة الرابع والعشرين من يونيو الماضي كشفت أيضاً عن المخاطر المحتملة في الكثير من البؤر المضطربة مثل بعقوبة رغم عدم التكافؤ في القدرات النيرانية بين القوات الأمريكية من ناحية وبين شبكة المقاومة التي بلغت درجة عالية من النضج.
في الوقت نفسه فإن عناصر المقاومة يستغلون كل شيء من أجل توجيه ضرباتهم إلى القوات الأمريكية ثم الذوبان بين السكان المدنيين استعداداً لهجوم جديد في اليوم التالي.
ويعترف القادة الأمريكيون أن هجمات المقاومة العراقية استمرت في الوقت الذي انسحبت فيه القوات الأمريكية خارج مدن مثل الفلوجة وبعقوبة والرمادي وسامراء.
وقال هؤلاء القادة: إن قوات الأمن العراقية مازالت عاجزة عن السيطرة على تلك المدن التي تحولت إلى قواعد انطلاق للمقاومة العراقية.
في ضوء النهار
مع أول ضوء وفي الساعة الخامسة والنصف صباحاً انطلق الملازم أول ماكس سترواد وفصيلة عربات القتال (برادلي) التي يقودها في اتجاه غرب بعقوبة لتطهير الطريق من الألغام وهي مهمة مزعجة ولا تناسب فصيلة مشاة. ويرى الملازم أول ستراود أن مثل هذه المهمة (مزعجة للغاية).
وقبل أن يغلق سترواد جهاز الرؤية الليلية الخاص به مع انتشار نور الصباح رأى أول قذيفة مدفع ثقيل تتجه نحو المركبة التي يستقلها. انحنى سريعاً داخل برج المركبة
متوقعاً اشتباكاً سريعاً.
وفي خلال ثوان قليلة أدرك الضابط الأمريكي من خلال صوت ودقة الطلقات الموجهة إلى فصيلته أنه أمام معركة حقيقية وأن عليه أن يخوض معركة حياة أو موت.
وانهمرت طلقات المدافع وقذائف القواذف الصاروخية (آر بي جي) على مركبات فصيلته.
وتوالت انفجارات عدد من الألغام الأرضية حوله مما أعاق مستوى رؤيته.
يقول سترواد: (اندفعنا في اتجاه الخروج من منطقة القتال. وهنا تلقيت أمراً بالبقاء للاشتباك مع المقاتلين حتى نتمكن من الالتفاف والعودة وإطلاق النار على أي شيء في المنطقة). ولكن كثافة النيران المعادية زادت، لذلك أصبحت المدافع الرئيسية الثلاثة لمركبات برادلي الموجودة مع القوة بلا فاعلية.
ونعود إلى القاعدة التي تنتمي إليها فصيلة سترواد لنجد الرقيب أول تشاد ستيفنس يستيقظ في السادسة صباحاً على صراخ قائد الكتيبة 120 ألفاً مشاة وهو يقول (الفصيلة الثالثة تتعرض للهجوم).
النجدة تحتاج إلى نجدة
وفي خلال دقائق غادرت خمس مركبات برادلي إضافية بوابة القاعدة في اتجاه القوة المحاصرة.
وتعرضت المركبات الخمس لنيران القناصة وقذائف ال(آر بي جي).
أخرج الكابتن تشاد رأسه ليتفقد المكان فأصابته طلقة في رأسه.
انطلقت مركبتان برادلي لإخلاء القائد المصاب وتركتا مركبة الرقيب ستيفنس ومركبتين أخريين تحاولان التقدم شرقاً من أجل إنقاذ جماعة سترواد والتقدم في اتجاه قلب مدينة بعقوبة حيث يوجد مقر رئيس المدينة.
وخلال تقدم المركبات استمرت النيران المعادية التي تستهدفها.
يقول الجندي جيفري والتون: (كنت تستطيع سماع أصوات الانفجارات والطلقات التي تصطدم ببرج المركبة).
وفجأة انفجرت قذيفة آر بي جي في جسم المركبة. أصابت القذيقة دانيال ديسنس وأدت إلى قطع الاتصال اللاسلكي بين المركبة وبين
باقي مركبات القوة ثم اشتعلت النيران في الذخيرة الموجودة داخل المركبة.
ويضيف والتون: (كانت النيران أمام عيني) ثم أصيب وخمسة آخرون بشظايا المتفجرات وخنقهم الدخان.
وبعد أن انتهي الدخان رأي والتون صديقه الحميم ديسنس ممدداً بلا حراك في برج المركبة.
وكان قائد المركبة يتحرك بلا وعي حيث انطلق في اتجاه القتال ولم يتوقف إلا عندما صرخ فيه أحد أفراد المركبة بأن يتجه في الطريق الآخر.
وقد تعطل مدفع المركبة وأصبحت (صيداً سهلاً للمقاتلين العراقيين) على حد قول الرقيب أول ستيفنس.
وبعد أن هبطت مركبات برادلي الثلاث إلى منطقة منخفضة من الأرض بين الكباري قفز ستيفنس خارجاً من المركبة.
وبدأ الرقيب أول يحاول جذب المدفعجي المصاب خارج المركبة في الوقت الذي كان العراقيون الذين يستقلون سياراتهم يطلقون الرصاص عليه.
وفي هذه الأثناء قفز رالف إيزابيلا ليرى والتون والجنود الآخرين الجرحى وهم يجرون في كل اتجاه على غير هدى.
كان والتون يصرخ (طبيب.. طبيب.. إصابة ديسنس خطيرة).
وما أن سمع صراخ والتون حتى نسى تماماً المعركة الدائرة وانطلق يحاول إنقاذ صديقه المصاب.
ولم يتشتت انتباهه حتى ضربت رصاصة كومة قمامة خلفه. نظر حلفه فوجد رجلاً يرتدي ملابس سوداء ومندفعاً نحوهم وهو يطلق عليهم النيران حتى قتله الجنود الأمريكيون.
وكانت المركبة برادلي مملوءة بالجرحي عندما كان ستيفنس يخترق بها وسط مدينة بعقوبة وانطلقت قذيفة آر بي جي نحوها فأصابتها وانفجرت داخلها لتصيب شظاياها المدفعجي في ظهره واضطر ستيفنس إلى إغماض عينيه بسبب شدة الانفجار.
وعندما فتح عينيه وجد المدفعجي ينزف وهو ممدد على أرضية المركبة.
وأخذ ستينفس يصرخ (ريفيرا) وهو يهز جسم الجندي الممدد على الأرض ويقول له: (إنهم مازالوا يطلقون النار علينا يجب أن تقاتل)، وبمرور الوقت تمكنت القوة الأمريكية من العودة إلى القاعدة ولكن ديسنس كان قد مات.
يقول ستيفنس المرشح للحصول على النجمة الفضية من القيادة الأمريكية عن المقاومة: (لم أكن أتوقع أن يكونوا منظمين بهذه الدرجة. إنهم يزدادون ذكاء كل يوم).
دقة غير متكافئة
في قاعدة العمليات الأمامية الأمريكية على حدود مدينة بعقوبة كان الميجور بريان باكستون يراقب الهجوم على الطبيعة من مروحيته التي كانت تحلق فوق أرض المعركة.
وبالنسبة للميجور باكستون وهو ضابط مساندة نيرانية للكتيبة الثالثة من الفرقة الأولى مشاة لم تكن دقة وكثافة النيران في التعامل مع الكمين العراقي متكافئة.
وفي الوقت الذي كان الجنود يخوضون المعركة في وسط بعقوبة كان على باكستون الرد على هجمات صاروخية ومدفعية متعددة على القاعدة بالإضافة إلى الهجمات على المباني الحكومية في مختلف أنحاء المدينة.
وبحلول الثامنة والنصف صباحاً كان المقاتلون الذين كانوا يتحدثون بخليط من اللهجات غير العراقية قد استولوا على مركزين للشرطة بالمدينة واستولوا على 140 بندقية كلاشينكوف وحوالي 30 ألف خزينة ذخيرة وملابس عسكرية وعربة شرطة واحدة على الأقل.
وبعد ذلك رفعوا علم منظمة (التوحيد والجهاد) التي يتزعمها الزرقاوي فوق مركزي الشرطة.
وخلال النصف الساعة التالية حاول المقاتلون العراقيون اغتيال قائد شرطة بعقوبة وليد العزاوي الذي فرّ من فوق سطح منزله بعد أن اشتعلت فيه النيران.
يقول كريج شينيل ضابط مخابرات الكتيبة الأمريكية في بعقوبة: (المقاتلون
الأجانب اتجهوا إلى مراكز الشرطة في حين استخدموا المقاتلين العراقيين كنيران مدفعية لتعطيلنا. إنهم أرادوا إهانة قوات التحالف وإظهارها بمظهر العاجز).
ولكن الجديد في هذه المعركة أن عناصر الشرطة العراقية والحرس الوطني خاضوا المعركة إلى جانب الجنود الأمريكيين بثبات مفاجئ إن لم نقل بمهارة تكتيكية.
ففي خلال الاضطرابات التي شهدتها مدينة بعقوبة في أبريل الماضي نزع أفراد الشرطة العراقية ملابسهم العسكرية وذابوا بين السكان في الوقت الذي اختبأ فيه حراس الأمن الخاص داخل المباني ولكن في معركة الرابع والعشرين من يونيو شاركت الشرطة والحرس الوطني العراقي إلى جانب الجنود الأمريكيين وسقط منهم الكثير من القتلى والجرحى.
وقال الجندي علي للأمريكيين بعد أن فرغت بندقيته الكلاشينكوف من الطلقات: (لقد أطلقت الرصاص من أجلكم).
والحقيقة أن القوات الأمريكية نفسها استنفدت ذخيرتها في هذه المعركة.
يقول الميجور باكستون: (لم أترك شيئاً في صندوق أدواتي لم أستخدمه في هذه المعركة سوى مدفعية البحرية).
وقد تمركز ثلاثون مقاتلاً عراقياً فوق المباني بالقرب من ستاد المدينة شرق بعقوبة لمنع تقدم القوات الأمريكية إلى وسط المدينة.
وبدلاً من محاولة تطهير هذه المباني من المقاتلين قرر العقيد بيتارد قصف مدرستين خاليتين من الطلبة بالقنابل زنة 500 رطل.
وفيما بعد قام الجنود الأمريكيون بتفتيش هذه المباني حيث عثروا على كميات كبيرة من الصواريخ والقذائف وسيارتين مفخختين.
ونعود إلى نقطة التفتيش. فما إن سمع أفراد الحرس الوطني العراقي صوت القصف الجوي الأمريكي للمباني في شرق المدينة حتى راحوا يرقصون فرحاً بالهجوم. وأخذ علي يصيح (اضربوا ثانية.. اضربوا ثانية).
الدبابات تدخل المعركة
وفي ظهيرة هذا اليوم تلقى الكابتن بول فلاور قائد كتيبة دبابات أمراً بقصف المواقع التي مازالت تشكل خطراً على القوات الأمريكية على الطريق الرئيسي المؤدي إلى قلب المدينة. فقد كانت الدبابات مطلوبة من أجل السيطرة على الموقف.
ولم يكن الكابتن فلاور ورجاله قد ناموا أكثر من ساعة واحدة منذ أن عادوا من العملية التي قاموا بها طوال الليلة السابقة خارج مدينة بعقوبة. وانطلق رجال وحدة الدبابات ليعيدوا تزويد دباباتهم بالمتفجرات والذخائر استعداداً للتحرك.
بحلول حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً ركب فلاور عربة طراز هامفي وفي قلب رتل الدبابات ومعهم أربع ناقلات جنود مدرعة طراز إم 113 على نفس الطريق الذي هاجم فيه المقاومون الجنود الأمريكيين في بداية معركة اليوم.
وفي خلال دقائق قليلة تعرض الرتل العسكري الأمريكي لما وصفه فلاور بأنه هجوم دقيق للغاية.
وبدأت سلسلة ألغام أرضية تنفجر في الرتل مع توالي قذائف ال(آر بي جي) دقيقة التصويب في اتجاه الدبابات.
بعد ذلك فتح المقاتلون نيران مدافعهم والأسلحة الآلية لتغطية المقاتلين الذين كانوا يحاولون الاقتراب من المركبات الأمريكية لتنفيذ عمليات ضدها.
وقد تمكن بالفعل عدد من المقاتلين من الاقتراب من هذه المركبات قبل أن يقتلهم الجنود الأمريكيون وهم على بعد أقل من متر منها.
يقول فلاور: (لقد كان كميناً محكماً، فهؤلاء المقاتلون مدربون جيداً ومنظمون جيداً، وهناك بالتأكيد شخص ما يقودهم).
في الوقت نفسه أصبحت بعقوبة مدينة أشباح حيث خلت شوارعها المزدحمة عادة من المارة. وترك السكان سواء عن خوف من المقاتلين أو تأييداً لهم متاجرهم وأسطح منازلهم لهؤلاء المقاتلين لكي يهاجموا القوات الأمريكية منها.
وفي الوقت الذي كان الرتل العسكري الأمريكي يحاول المرور من منطقة الموت الممتدة لمسافة ميل تقريباً ركز المقاتلون نيرانهم على
اتصل بأحد أصدقائه وطلب منه اصطحابه إلى بغداد للاطمئنان على أفراد أسرته.
وفي الطريق إلى بغداد مر الصديقان بحطام سيارة تشبه السيارة التي رحلت فيها عائلته. حاول الاقتراب منها لكن صديقه منعه وقال إنه إذا حاول الاقتراب فإن الأمريكيين سوف يطلقون عليهما النيران.
وعندما وصل إلى بغداد انطلق إلى شقيقه يسأله عما إذا كان أبناؤه قد وصلوا وكان وجه الشقيق يعطي الإجابة بالنفي.
طلب من صديقه العودة إلى بعقوبة للبحث عن العائلة المفقودة على أن ينتظرهم هو في بغداد.
وبعد فترة مرت على عبداللطيف كأنها دهر اتصل الصديق بعبداللطيف وطلب منه العودة إلى بعقوبة لآن عائلته موجودة في المستشفى حيث لقيت حتفها بالكامل على يد القوات الأمريكية.
وقف الدبابة الأولى في الرتل من أجل تعطيل تقدمه حيث أصيبت هذه الدبابة بسبع قذائف آر بي جي. وفي هذه المعركة استنفد المقاتلون كل ما لديهم من ذخيرة ولكن كانت هناك شاحنات محملة بالذخائر تعيد تموينهم بالأسلحة والذخيرة.
وصرخ الرقيب لويس أفيلا المدفعجي في دبابة القائد فلاور في قائد الدبابة: (أسرع هناك مقاتل مسلح ب(آر بي جي) على اليمين).
وأدار الرقيب أفيلا المدفع الماكينة في اتجاه المقاتل العراقي ولكن طلقة انحشرت في ماسورة المدفع فلم يعد صالحاً للعمل لذلك لجأ إلى بندقيته إم 16 وأطلق نيرانها على المقاتل.
وخلف هذه الدبابة تعرض الرقيب أول ريكي كليات لصدمة قوية عندما انفجرت قذيفة آر بي جي في ناقلة الجنود المدرعة إم 113 التي كان يركبها فأطاحت بطاقمها.
وكان الرتل مازال يحاول التقدم حيث كانت الدبابات تطلق نيرانها على المباني المحيطة استهدافاً لمواقع المقاتلين.
يقول فلاور: (لقد قذفنا المقاتلون بكل ما لديهم، كانوا يريدون السيطرة على المدينة وإظهار أنهم قادرون على هزيمة الأمريكيين).
مأساة عائلة عراقية
في الوقت الذي أشعلت فيه المعركة شوارع قلب بعقوبة كان عبداللطيف إبراهيم مدير كهرباء محافظة ديالي يواجه معضلة كبيرة. فهو من ناحية يحتاج للبقاء في بغداد لممارسة عمله، خاصة وأنه كان من أوائل الذين تعاونوا مع القوات الأمريكية عند وصولها إلى المدينة. في الوقت نفسه كان عبداللطيف إبراهيم يعلم تماماً أنه مستهدف من قبل المقاومة باعتباره أبرز المتعاونين مع الاحتلال. وقد تعرض بالفعل لمحاولة اغتيال عندما انهمرت رصاصات مجهولين على السيارة التي كان يركبها قبل سبعة أشهر.
يقول عبداللطيف إن نجاته كانت (معجزة). ومع تفجر القتال كان على عبداللطيف أن يتخذ قراره بإخراج زوجته وأطفاله الستة إلى مكان آخر خارج مدينة بعقوبة حرصاً على أرواحهم. وكان عليه أن يرسلهم إلى شقيقه في بغداد.
وكان ابن أخ عبداللطيف يضغط على عمه من أجل السماح له باصطحاب عائلته
إلى بغداد.
في البداية كان عبداللطيف متردداً، ولكن مع اشتعال المعركة الأخيرة انتهى التردد وقرر إرسال عائلته إلى بغداد في عربة صغيرة يقودها ابن شقيقه.
احتضن الرجل طفلته الصغيرة أفنان وابنه يوسف قبل أن يساعد عائلته في ركوب السيارة وحزم الأمتعة بها.
وفي الظهيرة شاهد السيارة وهي تتحرك متجهة إلى بغداد. وظل يتبعها حتى غابت عن نظره وبها أطفاله وزوجته.
سيارة مسرعة
أعادت وحدة الدبابات تجميع نفسها في شمال ميدان المفرق لإخلاء الجرحى وإصلاح الدبابات المعطوبة.
وفي منتصف النهار بدا الأمر وكأن الكابتن فلاور سوف يواجه أسوأ تهديد يمكن أن يتخيله في حياته. فعلى بعد عدة مبان كانت هناك سيارة صغيرة قادمة من الاتجاه الذي كان المقاتلون العراقيون يتمركزون فيه. وكانت السيارة تتجه بسرعة في اتجاه الدبابات الثلاث المتوقفة.
اعتقد جميع الأمريكيين في المنطقة أنها سيارة ملغومة تسعى لتنفيذ عملية انتحارية. أطلقت إحدى الدبابات طلقة تحذيرية. توقفت السيارة لبرهة ثم استأنفت سيرها في اتجاه الدبابات كما يقول فلاور. عند ذلك أطلقت الدبابة الأمريكية طلقة على محرك السيارة.
ولكن السيارة واصلت سيرها في اتجاه الدبابة.
أصدر فلاور أوامره بالاشتباك مع السيارة فأطلقت عليها إحدى الدبابات قذيفة حولتها إلى كتلة من الصفيح.
ومر وقت طويل قبل أن يقترب أحد من الأمريكيين من هذه السيارة خوفاً من أن تكون مفخخة. وظلت الجثث مكدسة داخلها وقد سبحت في بركة من الدماء.
في ذلك الوقت كان قد مر أكثر من ساعة منذ خروج عائلة عبداللطيف في اتجاه بغداد.
اتصل عبداللطيف بشقيقه يسأل عما إذا كانت العائلة قد وصلت أم لا.
أخبره شقيقه أن أحداً لم يصل.
بدأ القلق يسيطر على عبداللطيف فالمسافة بين بعقوبة وبغداد لا تستغرق كل هذا الوقت.
الحياة تعود إلى شوارع بعقوبة
عندما أذن المؤذن لصلاة المغرب في مساجد بعقوبة كانت المعركة قد انتهت وبدأت الحياة تدب في شوارعها المهجورة مرة أخرى وفتح الباعة متاجرهم وبدأوا يبيعون البطيخ والمياه الغازية.
وانطلق الأطفال في الشوارع يلهون ويضحكون بلا خوف وكأن مدينتهم لم تكن تشهد معارك دامية منذ لحظات، بل إنهم كانوا يستنزفون الجنود الأمريكيين المرهقين ويأخذون ما معهم من زجاجات مياه أو شيكولاتة. وعاد قائد شرطة المدينة إلى مركز الشرطة مرة أخرى. وكانت جثث حوالي ستين مقاتلاً ممددة في شوارع بعقوبة في حين تراجع الباقون في الأزقة ومزارع النخيل.
ذهب عبداللطيف إلى المستشفى حيث علم أن السيارة المحطمة التي مر بها كانت السيارة التي تقل أبناءه وأن قطعة الملابس التي رآها إلى جوار السيارة المحترقة كانت تغطي جثة زوجته سعدية.
وعاد فلاور وأفراد قوته إلى القاعدة. وعلم بعد عودته تحويله إلى التحقيق في قضية مقتل عائلة عبداللطيف.
ومنذ تلك المعركة لم تشهد بعقوبة أي مواجهات كبيرة بين المقاومة والقوات الأمريكية حتى الآن رغم استمرار انفجار السيارات الملغومة التي تقتل العديد من العراقيين وتنشر أجواء الخوف في المدينة.
ورغم هذا الهدوء فإن الضباط الأمريكيين في بعقوبة وغيرها من مدن العراق يدركون تماماً أن المقاتلين العراقيين والأجانب يعدون لهجمات جديدة ضد القوات الأمريكية.
في الوقت نفسه فإن الإستراتيجية الأمريكية طويلة المدى تقوم على أساس تدعيم قوات الشرطة والجيش العراقية وزيادة عددها وتدريبها حتى تتولى مهمة التعامل مع المقاتلين.
ولكن المشكلة تكمن في افتقاد القيادة الأمريكية للمال والوقت اللازمين لتحقيق هذه الإستراتيجية.
ثمن العائلة
وبعد (التحقيقات) أصدر الجيش الأمريكي قراراً بتبرئة فلاور من أي مسئولية عن مقتل عائلة عبداللطيف وتحميلها للمقاتلين.
في الوقت نفسه قدم الأمريكيون خمسة آلاف دولار إلى عبداللطيف تعبيراً عن (الأسف) لفقدان عائلته.
أما عبداللطيف إبراهيم الذي يروي الحكايات عن أطفاله وهو يواري أجسادهم التراب، يقول إنه يتمنى أن يكون موتهم (خدمة للإنسانية).
ويضيف: (أدعو الله أن تكون عائلتي هي آخر الضحايا في العراق.. وأنا لا أريد معاقبة قاتل أطفالي، أنا أريد فقط أن أقدم له القصيدة التي كتبتها طفلتي الصغيرة الراحلة «أفنان» والتي فازت بالجائزة في مسابقة الشعر):
أتمنى لو جمعت العالم في قلبي الصغير
أتمنى لو جعلت كل هؤلاء الذين يحكمون
يوافقونني في الرأي
أعلم يقيناً أنهم يصبحون كالأطفال أحياناً
مثلي ومثل يوسف
يتقاتلون من أجل أشياء صغيرة.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|