* إعداد - وليد الشهري
في الحلقة الماضية كشفنا عن واحدة من أفظع جرائم القتل في تاريخ أمريكا والتي كان ضحيتها ثماني من الفتيات البريئات اللاتي يعملن في دورة تدريبية للممرضات بأحد مستشفيات مدينة شيكاغو إلا أن القدر لم يمهلن الكثير لإنهائها وعوضاً عن ذلك أنتهت فصول حياتهن بأبشع الطرق على يد سفاح لا يملك قلبه معنى لمفردة الرحمة سوى الدم والتشويه والقتل. وبعد إنقاذ الشرطي دانيال كيلي للناجية الوحيدة وهي السيدة كورازون من هذه المذبحة وذكرنا الفظائع التي شهدتها بدا المحققون في استرجاع كافة الخيوط التي تحصلوا عليها في طريقهم الطويل لكشف القاتل صاحب وشم (وُلِد ليُظهرَ الجحيم) آملين في القبض عليه قبل أن يبحث عن مكان جديد يشبع به تعطشه المريض لدماء الأبرياء.
الشاهدة تكمل سرد
فظائع المجرم
وفيما السيدة كورازون تشاهد رفيقاتها يقتادون الواحدة تلو الأخرى علمت بأن هذا المجرم يقوم بقتلهن وعلمت بأنها ستلقى المصير نفسه فزحفت رغم قيدها بقوة تحت أحد الأسرة وضغطت بنفسها بحيث لا تصبح مرئية للقاتل عند دخوله وقد نجحت في ذلك بالفعل، حيث إن القاتل لم يقم بعد ضحاياه ربما يعود ذلك لثقته التامة في أن لا أحد منهن سيتمكن من الهرب أو ربما لاستعجاله في تنفيذ جريمته والهرب قبل أن يلحظه أحداً من الجيران حيث أكمل جريمته في بقية الفتيات وتوزيع جرائمه بين غرف الشقة وفي دورة المياه وتنوعت أساليبه بين التشويه والنحر والتعذيب والاعتداء الجنسي عليهن في جريمة إذا ما قيست من حث الفردية فإنه لم يشهد رجال القانون مثلها في بشاعتها.
وتقول السيدة كورازون إنها ظلت تحت السرير طوال الوقت بينما تشاهد المجرم يقتاد رفيقاتها من أمامها إلى حتفهم حتى أنها شهدت جريمته الأخيرة التي اغتصب وقتل فيها آخر رفيقاتها وهي غلوريا دافي دون أن تحرك ساكناً. بعدها قام المجرم بالاغتسال من دماء ضحاياه وجمع المسروقات التي كان قد جمعها من حقائب الضحايا وألقى نظرة أخيرة على الغرفة دون أن يدرك وجود السيدة كورازون تحت السرير ثم التفت ليلوذ بالفرار، بينما ظلت السيدة كورازون عدة ساعات تحت صدمة وهول ما رأت قبل أن تقوم أخيراً بجمع قواها ومحاولة فك وثاقها والذي نجحت أخيراً في حله، لتخرج وتشاهد وقائع العنف والتعذيب والقتل في رفيقاتها لتفقد صوابها وتركض باتجاه الشرفة صارخة وطالبة العون من أي شخص يقع تحت نظرها.
البحث عن هوية سفاح الممرضات
بدا المحققون بقيادة رئيس التحقيق الجنائي لمدينة شيكاغو السيد فرانشيس فلانغن محاولة ربط كافة المعلومات التي تحصلوا عليها في هذه القضية للكشف عن هوية السفاح المجرم بأسرع ما يمكن وهم يدركون صعوبة تحقيق هذا الأمر في ظل ظروف الجريمة والتي تفتقد للكثير من الدلائل التامة التي لو وجدت كانت ستسهل على المحققين في القيام بعملهم على وجه السرعة. قام فلانغن مرة أخرى بزيارة الشقة التي شهدت فصول الجريمة المروعة وقام بتركيز شديد بمراجعة رواية السيدة كورازونفي كل زاوية من زوايا المكان وبدأ يسترجع كافة التفاصيل الدموية التي ذكرتها الشاهدة آملاً أن يكتشف السر وراء ارتكاب هذه الفظائع بحق فتيات شابات بريئات. وفلانغن كان متأكداً بأن الدافع ليس بالسرقة وإلا فكان الأحرى بالقاتل أن يقتحم الشقة متنكراً ويلوذ بما يتمكن من الحصول عليه دون عناء القتل والتشويه. وفيما السيد فلانغن يتصارع مع أفكاره طرح أكثر من نظرية منها أن يكون القاتل مريضاً نفسياً لصدمة نفسية شهدها في صغره أو أن يكون ناقماً على الفتيات الصغيرات أو ممن يملكون هوساً جنسياً تجاه الفتيات الصغيرات وفيما هو كذلك أدرك سريعاً بأن وجوده في مسرح الجريمة لن يجدي نفعاً وأنه مضيعة للوقت وتوفير مدة أطول للقاتل في إيجاد فرصة للفرار خارج المدينة ففضّل العودة لقسم الشرطة وتجربة طريقة أخرى. وفور عودته لقسم الشرطة أمر فلانغن الضابط اوتيس راثيل رئيس الرسامين الجنائيين بمحاولة إنشاء رسم توضيحي للقاتل بحسب أقوال ومواصفات السيدة كورازون ومن ثم نشرها في كافة وسائل الإعلام لمحاصرة القاتل والأمل بأن تتطابق الصورة ويبلغ عنه أحد سكان المدينة.
لا شك أن المحقق فلانغن لم يكن ليتوقّع أن يتعرف أحد على الرسم التقريبي الذي أصدرته الشرطة وبثته في كافة وسائل الإعلام نظراً لقلة البيانات التي تحصلوا عليها من السيدة كورازون ولكن مهارة الضابط اوتيس في رسمه كانت واضحة ففي غضون ساعات قليلة تلقت الشرطة بلاغاً من موظف تابع لشركة ماري تايم يونيون هول يقول إن صاحب الصور بائع بحري يدعى ريتشارد سبيك.
ماض مؤسف لقاتل تعيس
وفي بحث سريع كشفت الشرطة ماض الشخص المدعو ريتشارد سبيك فقد ولد في السادس من ديسمبر سنة 1941م ببلدة تدعى كيرك وود وكان السابع من ثمانية أخوان وعندما بلغ السادسة من العمر توفي والده وتزوجت أمه من شخص آخر وانتقلت العائلة مع زوج أمهم الجديد على مدينة دالاس بولاية تكساس الأمريكية. من المؤسف أن زوج أم ريتشارد كان يعاقر الخمر وكان يسيء معاملته مع إخوته. كان عدم الاستقرار هذا السبب الرئيسي في ترك ريتشارد لدراسته ومصاحبة أصدقاء السوء في ارتكاب العديد من الجرائم كالسرقة ولم يكن هناك الكثير من المعلومات عن ريتشارد في ذلك الوقت حتى نوفمبر من عام 1962م عندما كان عمر ريتشارد 18 سنة، حيث أراد البعد عن الجريمة وتجربة الاستقرار بزواجه من شيرلي مالون وأنجبا طفله صغيرة أسمياها روبي لين. إلا أن ريتشارد سرعان ما عاد لحياة الجريمة واستمر يدخل ويخرج من السجن بشكل شبه مستمر ما بين قضايا تزوير وسرقة واعتداء. وفي العام 1966م كانت مالون قد سئمت من هذه الحياة وطلبت الطلاق من ريتشارد سبيك. بعد عدد من سنين السجن الضائعة انتقل إلى شيكاغو وعمل في عدة وظائف مختلفة قبل أن يستقر به الحال كبائع متجول على ظهر قارب في نهر ميتشغن ولكنه لم يستمر طويلاً.
سجل مخيف لريتشارد سبيك
فلانغن أكتشف الكثير من الأمور المروعة فبعد نشر اسم ريتشارد السفاح والإبلاغ عنه في كافة الولايات والمقاطعات تبيّن له أن سبيك مطلوب في أكثر من قضية قتل واغتصاب في عدد من الولايات، ففي مون ماوث طلب سبيك من قبل السلطات هناك للتحقيق معه في قضية قتل واغتصاب لعجوزين كانتا تسكنان في الضاحية. وفي ميتشغن طلبته السلطات المحلية هناك للتحقيق في مسألة اختفاء أربع فتيات لم يعثر عليهن منذ ذلك الحين وقد تصادف وجود سبيك هناك في تلك الفترة، كما أن محققين أنديانا طالبوا بريتشارد للتحقيق معه في قضية اختفاء ثلاث فتيات أيضاً في ظروف غامضة. هذا السجل المخيف جعل المحقق فلانغن يكثف جهوده من أجل القبض على هذا المجرم المريض. وكان سبيك قد انتبه لنشر صورته في وسائل الإعلام وكان قد استأجر غرفة بأحد فنادق المدينة وعندما رأى أن الخناق قد اشتد عليه وأن القبض عليه هي مسألة وقت فقد قرر الانتحار في غرفته الفندقية. كان جالساً على الكنبة عندما قرر قطع أوردة معصمه ولكن عند رؤية الدم هلع المجرم الجبان وطلب النجدة بصرخات قوية كالطفل الصغير. وعندما نقل للمستشفى قبض عليه هناك وأودع السجن.
نهاية المرض الدموي
في الثالث من أبريل لسنة 1967م بدأت محاكمة المجرم سبيك في قضية مقتل الممرضات المراهقات وفي خلال 12 يوماً من تداول القضية داخل المحكمة بين ممثلي الادعاء ومحاميي الدفاع عن ريتشارد لم تكن الأدلة التي قدمت حتمية بمثل شهادة السيدة كورازون التي كان لشهادتها الدور الأكبر في الحكم بالذنب على المجرم وحكم القاضي بإعدامه ولكن ريتشارد نجا من الإعدام بعد أن قضت المحكمة العليا على حكم الإعدام في مدينة شيكاغو وحكم عليه في المقابل بالسجن من 400 وحتى 1200 سنة ولكن الوقت وثمار جرائمه لم تمهله الكثير من الوقت، حيث مات ريتشارد سبيك داخل السجن في الخامس من ديسمبر من سنة 1991م بعد أن تعرض لأزمة قلبية حادة أودت بحياته في الحال وهو في عمر (49 عاماً) بعد أن قضى 19 عاماً خلف القضبان. وريتشارد هذا من أغرب المجرمين الذين عرفوا على مر التاريخ فلم يعترف مطلقاً بمكان جثث جرائمه السابقة للفتيات على الرغم طلب أهالي الضحايا ورجائهم له وكان حتى موته غريباً فقد كان يتناول حبوب طبية لهرمونات أنثوية لتكبير بعض أجزاء جسمه كالنساء. وفي العام 1996م أي بعد خمس سنوات من موته تحصل أحد المراسلين الإعلاميين على شريط فيديو مهرب من داخل السجن لريتشارد سبيك وهو يتحدث مع أحد السجناء متباهياً بجرائمه وعرض هذا الشريط في أحد برامج التلفزيون الأمريكية الشهيرة وسبب ضجة كبيرة ورعب وخوف في قلوب المشاهدين فكان مرعباً في حياته وبعد مماته.